العنوان هو لكتاب لأستاذ الأدب الفرنسي في جامعة باريس بيير بايار، الكتاب يتكون من ثلاثة أقسام وخاتمة، وكل قسم به أربعة فصول. القسم الأول يتمحور حول أنماط الحقيقة: الحقيقة الذاتية، والحقيقة الأدبية والحقيقة التاريخية، والحقيقة العلمية.
والقسم الثاني عن بعض الحالات الخطابية، والقسم الثالث عن التصرفات التي ينبغي القيام بها، وينتهي الكتاب بالخاتمة.
يشير الكاتب إلى أن البشرية المعاصرة دخلت حديثا مرحلة ما بعد الحقيقة. ومصطلح ما بعد الحقيقة، وهو مصطلح جديد أضيف في العام 2016 إلى قاموس أكسفورد وجاء التعريف كما يلي: "يتعلق أو يشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام من نداء العاطفة والمعتقدات الشخصية"، وقاموس أكسفورد عادة كل عام يضيف الكلمات الجديدة الأكثر رواجا واستخداما.
وفي هذه المرحلة، التي أسميت بمرحلة ما بعد الحقيقة، تتكاثر المعلومات الخاطئة التي ينبغي مكافحتها لما يترتب عليها من إضرار. ويوضح أن الحكايات الخرافية قديمة قدم الكائن ابشري وهي جزء من حياته. وهي مفيدة للتقدم الاجتماعي لما للقصة من دور في حياة الإنسان.
يضع الكاتب أمثلة على قصص اشتهرت بين الناس وذاعت شهرتها على أنها قصص حقيقية أو حدثت لكنها لم تكن كذلك.
مثل كتاب: العيش مع الذئاب والذي تحول لفيلم سينمائي وهو يحكي معاناة صاحبة الكتاب التي تروي فيه قصة فتاة صغيرة تمكنت من عبور أوروبا بحثا عن والديها اليهوديين الذي كانت تعيش معهما في بروكسل، لكنهما اتخذا جميع الاحتياطات للهرب من الاعتقال والمحارق، وفي نهاية الأمر تم القبض عليهما واختفيا في خضم اضطرابات الحرب، وتركاها عند إحدى صديقات العائلة لكنها لم تكن تعاملها بالحسنى، فقررت الصغيرة الهروب عبر الغابات ورعتها الذئاب لأيام.
نجحت هذه القصة نجاحا كبيرا في أوروبا وتعاطف معها الناس بشكل كبير، وتحولت لفيلم سينمائي ولكن حدث خلاف بين صاحبة القصة والناشرة مما دفع الناشرة للبحث عن تفاصيل حياة صاحبة القصة لتكتشف أنها ليست يهودية في الأصل وكل حكايتها ملفقة وكانت الفضيحة مدوية.
ويسرد
الكاتب حكاية أخرى للكاتب المعروف عالميا جون شتاينبك الذي قرر عام 1960
القيام برحلة يكتشف عبرها بلده وسكانه، لشعوره بعدم معرفته الجيدة بهم.
واصطحب معه كلبه شارلي رفيقاً له، وهو كلب صغير من نوع كانيش الفرنسي ليكون
محادثه الرئيسي خلال الرحلة، ويتبادل معه انطباعاته. هذه الرحلة التي
استغرقت شتاينبك خمسة وستين يوماً عبر القارة الأمريكية، وطاف خلالها أربعة
وثلاثين ولاية، قادته وشارلي من نيويورك إلى شمال شرق الولايات المتحدة،
ثم شيكاغو، وبعدها الجبال الصخرية. ثم توجه إلى كاليفورنيا، ثم عاد إلى
تكساس، وصعد أخيراً نحو الشمال مروراً بولايات الجنوب.
يسرد
شتاينبك في كتاب الرحلة تلك وصف المناظر الأمريكية الطبيعية، وأنماط حياة
مواطني كل منطقة مر بها كما سجل حوارات طويلة ومحادثات احتلت عدة صفحات في
الكتاب والتي سهّلها الكلب شارلي كما يذكر الكاتب، بما يتميز به الكلب من
حُسن المعشر. حقق كتاب شتاينبك، الذي يندرج في إطار قصص الرحلات الكبرى،
نجاحاً واسعاً، وسرعان ما أصبح من أكثر الكتب مبيعاً. وتحول الكتاب إلى
كتاب كلاسيكي يدرس في المدارس الأمريكية.
ولكن
بعد خمسين عاما تقريباً - أي في عام 1910- قرر الصحفي الأمريكي بيل
ستايغروولد، القيام بالرحلة الأسطورية نفسها التي قام بها شتاينبك عبر
الولايات المتحدة الأمريكية، لا تدفعه إلى ذلك أي نية سيئة إزاء الكاتب
الذي يقدر عمله، بل كانت فكرته تنطوي على المرور في الأماكن نفسها التي
وصفها شتاينبك في كتابه، ليعثر إذا أمكنه ذلك، على من تحدث إليهم الكاتب،
أو ربما على أبنائهم، بهدف دراسة التغيرات التي أصابت الولايات المتحدة بعد
نصف قرن. ليكتشف أن كل شيء جاء في كتاب شتاينبك يتعلق بتلك الرحلة كان
مزيفا، سواء في خطوطه العريضة أم في تفاصيله. أحد الانتقادات الرئيسة التي
وجهها ستاينغر وولد لشتاينبك، هو اختلاق هذا الأخير غالبية الحوارات التي
أجراها مع الأمريكيين الذين التقى بهم. وأن الحوارات المُغرقة في أدبيتها،
لم يكن لها وجود في الواقع.
وهناك
أمثلة أخرى لكنني سأكتفي بهاتين الحكايتين لتوصيل ما جاء في الكتاب. دفعني
الكتاب للتفكير في حجم القصص والحكايات والكتب التي كتبت عن التاريخ
اليمني وبالأخص عن ثورة 26 سبتمبر عام 1962 وحجم الزيف في كل ذلك وحاجتنا
لمن يكشف الحقيقة. فعند قراءة ما كتب من سير ومذكرات وكتابات تاريخية يكتشف
القارئ حجم المغالطات والزيف، وأحيانا يكون من الصعب التمييز بين الحقيقي
والمزيف لتناقض المرويات حول الحدث الواحد. ونحن بحاجة لذلك الكاتب المشاكس
والمدقق والمحقق وكاشف الألغام الذي جاء وصفه في كتاب بيير بايار، والذي
لا يهدأ ولا يستكين حتى يكشف الحقيقة، لكشف الكثير من البطولات الزائفة
والحكايات التي تفاعل معها الناس وهي أبعد ما تكون عن الواقع.
فعل
ذلك عبد الله البردوني في كتابة: اليمن الجمهوري (طبعة 1983م) والذي أغضب
الشيخ سنان أبو لحوم وذكر ذلك في كتاب مذكراته واصفا البردوني (بالخرط)،
كما حاول لطفي فؤاد نعمان كشف جزء من الواقع حول الرئيس إبراهيم الحمدي في
كتابه: بدايات إبراهيم الحمدي-رحلة الصعود وقصة الطموح. ولاتزال الحاجة
لمزيد من أولئك المشاكسين.
نحن
إذا نعيش عصر ما بعد الحقيقة، والذي يحل فيه الكذب محل الصدق، والعاطفة
محل الحقيقة، والتحليل الشخصي محل المعلومة، والرأي الواحد محل الآراء
المتعددة.
لكن
ليس هذا كل شيء، فالكاتب يريد منا أن نفرق بين حق المرء في الحديث عن
وقائع لم تقع بعد والتعبير عن رأيه فيها؛ وهو حق يستحق أن ندافع عنه لا
سيما أنه اليوم موضع تساؤل من كل حدب وصوب. وهو يندرج في تيار نظري يمكن
تسميته النقد بالجهل، الذي يشدد، قبل الانخراط في نقاش معين على أهمية عدم
إرباك أنفسنا بمعارف غير مجدية لا يمكن أن تكون إلا مصادر للأحكام المسبقة.
في
كتاب آخر لجوناثان غوتشل، بعنوان: الإنسان الحكاء، يتتبع الكاتب علاقة
البشر عبر التاريخ بالحكايات بتنوعها، فهناك الأساطير والحكايات الشعبية،
والقصص، والقصائد الشعرية والملاحم، وأيضا الكتب المقدسة. ويقول إن
الحكايات هي ما يميز البشر عن غيره من الحيوانات. وفي سوق النشر تحتل
الروايات مركز الصدارة في المبيعات، وحتى حين نخلد للنوم يظل العقل مستيقظا
طوال الليل يروي القصص لنفسه.
وذكرني هذا بإن القرآن الكريم استخدم القصص أيضا ووصفها بأحسن القصص في دلاله لقوة تأثير القصص والحكايات على الإنسان.
وكما يقال فإن الذهن لا يفرق القصص التخييلية عن الوقائع، بل يعمل العقل العاطفي على معالجتها كأنها حقائق.
ونحن
نشعر بالرعب عند مشاهدة فيلم رعب كأنه حقيقة، وأحاول أن أقنع نفسي أنه
مجرد فيلم دون جدوى، لذا توقفت عن مشاهدة ذلك النوع من الأفلام.
ونحن
نعرف أن الأدباء والمفكرين يتبعون تقنيات تحيد بهم عن الحقيقة الواقعية
وذلك لإظهار بعض الضوء حول حقيقة أخرى قد تكون حقيقية وقد تكون تخييلية،
فكيف سنميز نحن القراء الحقيقة عن اللاحقيقة، لولا وجود من اسماهم مؤلف
الكتاب بالمشاكسين والمدققين والمحققين وكاشفي الألغام وهم الذين يبحثون عن
الحقائق والتحقق من صحة ما يكتبه البعض على أنه حقائق، فلولاهم لظلت بعض
الحكايات والسرديات مبهمة. ويعبر الكاتب عن دهشته لانخداع كثير من الناس
بالقصص الكاذبة التي يدعي أصحابها أنها حقائق. فما الذي يدفع الناس للوقوع
في الفخ؟
ومع
هذا ورغم أهمية البحث عن الحقيقة لكن الكاتب يدافع عن حق الإنسان في
اختراع القصص الخيالية، هذا الإنسان الكائن الحكاء أو الكائن اللغوي الذي
يحب الحكايات منذ زمن بعيد، عندما كان يتحلق الناس حول النار في المغارات
لسماع القصص الخيالية عن الكائنات المخيفة، وهناك فرق بين القضيتين بالطبع،
فمن حق الإنسان أن يكتب ما يمليه عليه خياله، لكن لا يحق له أن يوهم الناس
أن تلك حقائق.