هل لدينا مجتمع مدني حقيقي؟

نسمع عن المجتمع المدني، ومنظمات المجتمع المدني، ونسمع من ينتقد منظمات المجتمع المدني ويلصق بها العيوب والسلبيات. نسمع عن مشاريع للمنظمات لكن المواطن لا يشعر بفائدة تلك المشاريع التي تنتقي من تقدم لهم مساعدات هزيلة. نسمع أرقاماً فلكية للمبالغ التي تقدم لهذه المنظمات لكنها تتبخر في الهواء.
ولكن في البداية نحتاج أن نعرف بالضبط ما معنى مجتمع مدني وما هي منظمات المجتمع المدني، وهل يوجد في بلدنا مجتمع مدني، ومنظمات مجتمع حقيقية؟
مصطلح مجتمع مدني ظهر لأول مرة في الغرب مرتبطاً بنظرية العقد الاجتماعي التي تتحدث عن عقد بين الحاكم والمحكومين، فلم يعد هناك حق إلهي للملوك بالحكم كما يشاؤون، وظهر مفهوم التعددية السياسية بديلاً للحكم الفردي المطلق، وإقرار الحقوق والحريات والمواطنة والتي كانت من قبل مقصورة على طبقة النبلاء والأثرياء، وجاء مبدأ سيادة الأمة المشتق من حق المواطنة وهو إعلان لتجاوز الانتماء التقليدي في صيغته الدينية والمذهبية باتجاه علاقات اجتماعية طوعية وتعاقدية ينتظم فيها الأفراد لتحقيق غايات ومصالح مشتركة.
ومن التعريفات المبسطة للمجتمع المدني ما قاله محمد عابد الجابري بأن المجتمع المدني هو “مجتمع المدن”، ومؤسساته هي التي ينشئها الناس بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. أي أنها مؤسسات أو منظمات إرادية ينخرط فيها الناس بمحض إرادتهم، وهي تختلف عن مؤسسات المجتمع البدوي والقبلي التي هي مؤسسات طبيعية يولد الفرد منتميا إليها ولا يستطيع الانسحاب منها.
وبالتالي فالمجتمع المدني هو مجموع التنظيمات التطوعية الحرة التي تنشأ لتحقيق مصالح أفراد المجتمع أو لتقديم خدمات للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة وتلتزم في عملها بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف. وهذه المنظمات لا يقتصر عملها فقط على الجانب الخيري والإنساني بتقديم مساعدات للمحتاجين، بل إنها تضم مؤسسات تستطيع أن تلعب دورا إيجابيا وفاعلا في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي داخل المجتمع، وهي تشمل الجمعيات والروابط والنقابات والأحزاب والأندية والتعاونيات، أي كل ما هو غير حكومي وكل ماهو غير وراثي أو عائلي.
المجتمع المدني يكون مستقلا عن الدولة وسلطتها حتى يحقق الطموحات والاحتياجات الحقيقية لافراد المجتمع. فالمجتمع المدني هو الوسيط بين المواطن والحكومة، بين الحاكم والمحكوم، والذي يضغط على الحكومة لصالح المواطن.
وهذا المجتمع المدني يستند على ثلاثة أركان:
أولها الإرادة الحرة، بمعنى أن الفرد هنا ينضم بمحض إرادته بهدف تحقيق مصلحة ما للمجتمع، أو الدفاع عن مصلحة أفراد المجتمع.
الركن الثاني وجود شروط وقواعد للعمل على الجميع الالتزام بها بعيداً عن العشوائية والمزاجية والفوضى، فالعمل هنا عمل مؤسسي منظم.
أما الركن الثالث، فهو الركن الأخلاقي والسلوكي، فالعمل يعتمد على قيم واضحة يلتزم بها الجميع: احترام العمل الجماعي، وقبول الاختلاف والتنوع، والالتزام عند إدارة الخلاف بقيم التسامح والتعاون والتنافس السلمي سواء كان الخلاف داخليا بين أعضاء المجتمع المدني أو خارجيا مع الدولة.
ومن حقنا أن نتساءل: هل المجتمع المدني له أهمية؟ أو بمعنى آخر ما هي فوائده للمجتمع؟
المجتمع المدني بمؤسساته المختلفة وظيفته الأساسية أن يدافع عن حقوق الشعب واحتياجاته في مجال الصحة والتعليم والاقتصاد والسياسة، ويقوم بموازنة الديموقراطيات بين مختلف الأطياف الشعبية والحزبية، لأنه قادر على التأثير على القرارات الحكومية ومحاسبتها، فهو يملك سلطة شعبية من أفراد المجتمع، لهذا فهو يملك زمام السلطة والتأثير والمحاسبات القانونية للدولة.
كما أن المجتمع المدني يقدم الدعم المالي للمشاريع التنموية الفكرية للأفراد، ويتبنى هذه المشاريع في بناء العمل بشكل كامل من حيث الترويج له عالميا ومحليا.
فهل في بلادنا مانستطيع تسميته مجتمعا مدنيا؟
نستطيع القول بكل وضوح إن صورة ما يسمى بالمجتمع المدني في بلدنا، هي صورة هزيلة وسلبية في نظر الكثيرين، بسبب توجهات تلك المنظمات السياسية أو فساد القائمين عليها، ويبدو ذلك من هزالة البرامج والخدمات الحقيقية التي تقدمها للمجتمع. ولأن الدولة تمد سيطرتها تماما على كل شيء، فالكل يعمل لصالح الدولة، ينفذ ما تريد الدولة، لما يصب في مصلحة الدولة وليس العكس. فلا وجود لمن يحاسب أداء الدولة أو الاهتمام بالمصالح الحقيقية لأفراد المجتمع.
في الدول الحديثة المجتمع المدني يضغط على الدولة لتحقيق مصالح المواطن. في بلدنا نسمع الشعارات فقط والتي تظل شعارات. لهذا نجد المواطن لا يثق بكل تلك المكونات. وغالبا من يعمل في تلك المنظمات يلهث وراء مصلحته ومصلحة الحزب الذي ينتمي إليه.
وبالرغم من هذا هناك فسحة من الأمل أمام المواطن العادي، لمحاولة تحسين حياته رغم كل الصعوبات، والواقع السيء.
فبذور المجتمع المدني قد تبدأ بالظهور بسبب الحاجة إليه، وهذا ما يشعر به المواطن الذي يملك القدر الكافي من الوعي، ويعلم أنه لن يحصل على شيء وهو ينتظر الحكومة، وبدلا من لعن الظلام فعليه أن يبادر ويضيء لنفسه الدرب.
يستطيع المواطن أن يساهم في بناء مجتمع مدني مستقل لا ينتمي لأية تنظيمات سياسية ولا توجهات دينية ضيقة، ليعمل من أجل إيجاد منظمات مدنية يسعى أفرادها لتقديم الخدمات للمجتمع، دون التفكير في الربح المادي، أو إرضاء أية جهة.
أتحدث هنا عن بذور مجتمع مدني يتشكل على أرض الواقع، رجالا ونساء، شبابا من الجنسين يحملون قلوبا تمتلئ بحب الخير والإنسانية للجميع، دافعهم الأول هو تقديم شيء حقيقي للناس في هذه الظروف القاهرة والتي يعاني الكل من تبعاتها، قرروا ترك وضع المشاهد والمراقب، وضع الناقد الساخط والبدء بالتحرك العملي للمساهمة في تغيير هذا الواقع أو التخفيف منه على الأقل.
نسمع عن ذلك الذي يبحث عن مساعدات من المقتدرين ليوصلها للمحتاجين بنفسه، ونسمع عن تلك التي تدرب وتعلم فتيات مهنة أو حرفة ليكسبن لقمة العيش حتى يخرجن من دائرة الفقر والحاجة. وهناك من ينسق لتوفير المياة النظيفة في الحارات لمن لا يتحمل نفقات شراء المياة النظيفة. وهناك من يحاول جمع التبرعات لمريض عجزت أسرته عن تحمل نفقات العلاج في ظل الحصار وانقطاع المرتبات. وهناك من يفكر في توعية الناس والخروج في حملات نظافة للأحياء والحارات. نعم، هناك من يفكر بشكل إيجابي في ظل هذا الواقع المخيف.
تكاتف مثل هذه الجهود هي القاعدة الحقيقية لتكون مجتمعا مدنيا حقيقيا في اليمن. مجتمعا مدنيا يتكون من أفراد يتحملون المسؤولية تجاه الآخرين بكل حب ورضا. هذه البذرة ستخلق المجتمع المدني الذي سيغير مجتمعنا اليمني، فيتحول المواطن من حالة السلبية إلى الحالة الإيجابية، حيث يعلم ما معنى أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات. مواطن لا ينتظر ما تقدمه له الدولة من خدمات لا ترقى لما يحلم به، بل يستطيع أن يفرض على الدولة تحسين خدماتها لترقى لمستواه الذي ارتقى إليه.
ذلك المواطن الذي قال يوما: “شبر مع الدولة ولا ذراع مع القبيلي”، عليه أن يتغير الآن، لأن الظروف تغيرت والزمان أيضا تغير. مواطن يعلم أنه جزء من المجتمع ولا يستطيع أن يعيش في عزلة بعيدا عن مشاكل ومآسي الآخرين. ويستطيع الآن أن يطبق ما يؤمن به على أرض الواقع، كل تلك القيم التي تحولت يوما لمجرد شعارات تردد دون أن يكون لها صدى في الواقع مثل: “ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط”. و”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهروالحمى”.
نعم.. الإنسان هو الثروة الحقيقية في المجتمع، الإنسان الواعي المبادر الذي يمد يد المساعدة لمن يحتاجها، الذي يتطوع بجهده وفكره لتغيير حياته وحياة غيره للأفضل. وحتى لا تضيع الجهود دون أثر حقيقي سنرى منظمات للمجتمع المدني الحقيقي تتكون بعيدا عن سيطرة أصحاب المصالح. منظمات غير ربحية وغير حكومية، هدفها الأول تقديم الخدمات لمن يستحقها ولكن بشكل منظم، فتمتلك سجلات بأسماء المحتاجين في كل حارة، وتتنوع خدماتها لأن الاكتفاء بتقديم المعونات الغذائية ستنتج أفرادا اتكاليين لا يبالون من أين يأكلون، ولا يفكرون في الكسب والعمل. هذه المنظمات تدرب وتعلم وتكسب المحتاج القدرة والكيفية لإدارة عمل مناسب يدر دخلا ويساهم في خدمة أفراد آخرين.
مجتمع مدني أفراده يتجاوزون مرحلة الصدمة ليفرغوا طاقاتهم في بناء مجتمعاتهم بعيدا عن مشاعر الكراهية والحقد وكل العفن الذي ينتج بالضرورة زمن الحروب والصراعات وتأثيرها على نفوس الناس.
هذا المجتمع المدني سيتحول يوما لقوة على أرض الواقع تجعل فرصة المواطن اليمني أكبر في أن ينعم مستقبلا بدولة حقيقية، دولة يتساوى فيها الجميع أمام القانون الذي سيحميه ويفرضه الناس بوعيهم وتخلصهم من سيطرة من يعيشون على أكتافهم. من يقفون دوما ضد تكوين مجتمع مدني حقيقي في اليمن. أولئك الذين يتبجحون بالحديث عن مصالح المواطن وهم يعملون ضد مصلحته ولا يرى منهم سوى الغش والاحتيال.
مجتمع ينفض أفراده عنهم غبار الاتكالية ومشاعر الإحباط، ويشمروا سواعد الأمل والثقة بالله وبغد أفضل يتشاركون هم في تحديد ورسم ملامحه. لن يكونوا ضحايا طوال الوقت. بل هم الآن يشكلون إطارا شعبيا مدنيا يملك أفكارا وطموحات ومشاريع ويسعون لتحقيقها على أرض الواقع.
في تاريخ كل المجتمعات هناك نقطة بداية مضيئة تشع رغم كل الظلام المحيط، نقطة تبدد ظلام الواقع الذي ألقى بظلاله طويلا، وتبشر بمستقبل مختلف. والدولة الحديثة الديمقراطية التي نشهدها في الغرب وفي العالم المتحضر قامت على أكتاف المواطن والنخب الواعية التي تملك أفكارا وقيما حقيقية لتخليص المواطن من سيطرة وجشع الدولة بمؤسساتها المختلفة. فهل ستكون فظائع هذه الحرب هي البداية لتغيير حقيقي يمس أفكار الناس وثقافتهم، فتتغير الحياة للأفضل خاصة والأحداث المؤلمة كشفت الأقنعة عن حقيقة من يتكلمون باسم المواطن؟
فنحن بلد لا يموت، نحن بلد ذلك الطائر الذي يمتاز بالقوة والجمال، طائر “العنقاء” الذي تذكر الأسطورة أنه عندما يحتاج للتغيير يحترق وبعد أن يصبح رمادا يخرج من بين الرماد طائر “عنقاء” جديد أكثر جمالا وبهاء، ويعيد دورة الحياة.

https://nasejyemen.com/2019/05/15/%d8%a3%d8%ad%d9%84%d8%a7%d9%85-%d8%ac%d8%ad%d8%a7%d9%81-%d8%aa%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d9%87%d9%84-%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a7-%d9%85%d8%ac%d8%aa%d9%85%d8%b9-%d9%85%d8%af%d9%86%d9%8a-%d8%ad%d9%82%d9%8a/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصمت عار

فيلم Alpha

الكرد في اليمن، دراسة في تاريخهم السياسي والحضاري 1173 - 1454م لدلير فرحان إسمايل