تردي الاوضاع الاقتصادية وغياب مشروع الدولة

أتذكر أنني شعرت  بالاستياء الشديد من كلام المفكر محمد حسنين هيكل عندما قال في تعليقه على أحداث ثورة الربيع العربي في اليمن إن ما يحدث في اليمن ليس ثورة! بل قبيلة تحاول أن تتحول إلى دولة.
إذا لا وجود لدولة في اليمن، ولكن قبيلة تحاول أن تصبح دولة.
نعم، شعرت بالإهانة واستغربت كيف يصدر مثل هذا الكلام من مفكر بحجم هيكل.
ويبدو أننا نستغرب عندما يتم مواجهتنا بما لا نعترف به. نرفض تماما القبول والتصديق بسبب هول الصدمة التي تصيبنا.
ولكن لو حاولنا أن نتأمل لماذا قال هيكل ذلك؟ هل كان كلامه اعتباطا؟ هل كان في ما قاله نوع من الافتراء على حقيقة الوضع في اليمن؟ هل فعلا تحكمنا القبيلة منذ قيام ثورة 26 من سبتمبر؟ هل فشلت القوى السياسية في وضع أسس دولة حقيقية في اليمن؟
كثيرا ما سمعنا أن ثورة 26 سبتمبر، تخلصت من أشخاص النظام الملكي لكنها لم تتخلص من عقليته في إدارة البلاد.
فلا مؤسسات ولا قوانين حقيقية تم تأسيسها في البلاد، لقد ظل الحكم يعتمد على الشخص المسؤول. فلو غاب الوزير أو المدير لتعطلت كل الأمور. الوزير الجديد يستطيع بسهولة نسف كل جهود الوزير السابق والبدء من الصفر.
بالطبع لا ننسى أنه لنتحكم في المستقبل لابد من مراقبة وفهم الماضي القريب. على سبيل المثال فهم سبب استخفاف الحكومات المتعاقبة بالمواطن واحتياجاته.
المواطن وضع كل آماله في الدولة – والتي يبدو أنها لم تكن موجودة أو لم تكن على مستوى طموح المواطن – لكن آماله خابت فلا تنمية تحققت ولا شهد المجتمع تحديثا حقيقيا. بل إن كل مشاكل المجتمع تضخمت وأصبحت مستعصية وفشلت الدولة في حلها، وظلت مشاكلنا تتفاقم… الأمية، البطالة، الفقر.
لو أمعنا النظر في الوضع الاقتصادي لوجدنا أن وسائل الإنتاج المتخلفة هي السائدة، ففي القطاع الزراعي على سبيل المثال، لم يتم ميكنة العمل الزراعي رغم خصوبة الأرض واتساع رقعة الأراضي المنتجة للمحاصيل الزراعية، بل إن زراعة القات تسطو على أغلب الرقعة الزراعية دون وجود قوانين تحد من ذلك رغم وجود دراسات تظهر حجم الكارثة، وأثر زراعة القات الكارثي على منسوب المياة القليلة، لكن الدولة لم يكن لها دور إيجابي للحد من ذلك. تخلف الإنتاج الزراعي يؤثر بشكل سلبي على مستوى معيشة المزارعين في الريف والذي يشكل 70% من سكان البلد. الدولة تترك المزارع وحيدا يواجه ظروفه دون عون حقيقي، بل إن انتشار المبيدات التي تدخل بطرق غير مشروعة والاستخدام المفرط لتلك المبيدات من قبل المزارعين ودون رقابة أدى إلى إنهاك التربة، وساهم ذلك في انتشار مرض السرطان خصوصا لدى متعاطي القات كما أثر على جودة معظم المنتجات الخضرية. واللوم لا يقع على المزارع الذي لا يعرف خطورة مايقوم به فهو يحتاج للتوعية والإرشاد من الجهات المختصة.
ولأن المزارع في الريف لا يجد العون والدعم اللازم فهو يلجا للهجرة الداخلية، من الريف للمدينة، مما يتسبب في زيادة نسبة الأيدي العاطلة عن العمل، واتساع نسبة الفقر بمرور الوقت.
أما لو انتقلنا للقطاع الصناعي فليس هناك وجود لصناعة حقيقية تستطيع تشكيل طبقة ملحوظة من السكان يعملون في القطاع الصناعي، ونتذكر مصنع الغزل والنسيج في العاصمة صنعاء، الذي أغلق أبوابه رغم أنه كان مصدر رزق لعدد كبير من العائلات. وبدل من أن تزداد أعداد المصانع في البلد تم إغلاق ما كان موجودا.
هذا يعني بوضوح أن البلد لم يشهد نموا اقتصاديا يعمل على توفير فرص عمل للأيدي العاملة التي يزيد عددها عاما وراء عام. بمعنى أكثر دقة الدولة لم تلعب دورا حقيقيا في تنمية الاقتصاد.
الطبقة الوسطى المتعلمة في البلد تضاءلت بسبب سياسات الحكومة التي عملت على تحسين ظروف ملاك رؤوس الأموال المواليين للحكومة، فلعبت السياسة دورا حاسما في مجال الاقتصاد فاستفاد عدد قليل من الأشخاص على حساب مجموع المواطنين التي تلاشت آمالهم في حياة كريمة.
قام الاقتصاد الريعي في اليمن على موارد نفطية قليلة، ومساعدات خارجية لكن الفساد المتفشي كان يشتت كل شيء.
وهذا يجعلنا نذهب لمسألة تكوين الدولة في اليمن، فالتاريخ السياسي الذي أتت منه الدولة اليمنية الموحدة هو تاريخ مليء بالصراع على السلطة والثروة، مع غياب مشروع واضح للدولة الحديثة. مشروع لدولة يمنية تضمن العدل والمساوة والحياة الكريمة لكل مواطن يعيش على ترابها. وعند ظهور هذا المشروع من نخب لا تلهث وراء السلطة سيتغير الواقع اليمني، وستظهر الدولة التي ستبني الاقتصاد الذي يضمن الحياة الكريمة للجميع.
اليمن بلد لا يعاني من قلة موارد وثروات، على عكس دول صناعية ناجحة في الإنتاج رغم فقرها في الموارد الطبيعية مثل اليابان.
في دراسة لرسالة الدكتوراه للباحث الشوكاني تتحدث عن التحديات التي تواجه مشروع الدولة اليمنية الحديثة والتي أهمها التدخلات والمصالح الخارجية. قال في دراسته إن مخرجات الحوار الوطني مثلت برنامجا تحديثيا لبناء الدولة اليمنية بطموح يفوق القدرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الراهنة وهو ما يمثل تحديا كبيرا لليمن على المنظور البعيد. والدولة التي تعجز عن تحقيق الأمن والمحافظة على الاستقرار السياسي هي دولة فاشلة وعاجزة، ومن الصعب الحديث حينها عن وجود اقتصاد.
هل سينشأ تعاون بين الحكومة رغم كل الصعوبات الحالية وبين القطاع الخاص لوضع حد أعلى للأسعار ومنع المضاربة والتربح من معاناة الناس. في الوقت الحالي الملف الإنساني هو أهم ملف على الحكومة الاعتناء به، بالمساعدة مع الجهات الدولية المانحة حتى لا تزداد الأوضاع المعيشية للناس سوءا.
ففي ظل الاهتمام الدولي بالوضع الإنساني فهناك فرصة للحصول على دعم مباشر للاقتصاد، لو تم توجيه الدعم بشكل صحيح بعيدا عن دهاليز الفساد المعتادة والاستغلال البشع لمآسي الناس.
الوضع الاقتصادي الحالي متدهور بسبب توسع رقعة الفقر، وتدهور سعر العملة، انقطاع المرتبات، غلاء الأسعار، الحصار. وهناك حاجة لبرامج فاعلة للتعافي الاقتصادي، وتحسين الإدارة الحكومية المتعلقة بتوفير الاحتياجات الأساسية للناس مثل المشتقات النفطية وغيرها وضبط عملية الاستيراد والتوزيع بعيدا عن تجار الحروب. هناك حاجة للتركيز على البرامج التي تساعد السكان على تجاوز حالة الاحتياج وتأهيلهم للاعتماد على أنفسهم بدل من البقاء في دائرة تلقي المساعدات الغذائية فقط..
فكل خطوة تتم في اتجاه ترميم الاقتصاد ومنع المزيد من الانحدار ستكون خطوة في الاتجاه الصحيح لوضع حجر الأساس لاقتصاد حقيقي في دولة يتبلور مشروعها الحقيقي من معاناة وحاجة الناس لدولة حقيقية.
في وسط كل هذا الركام واللون القاتم الذي يلون المشهد الحالي، هناك ملامح لضوء مهما كانت درجة خفوته يستحق الملاحظة. أنه رأس المال الخاص، المشاريع الخاصة والمشاريع العائلية التي بدأت تطفو على السطح. مهما كان حجم هذه المشاريع فهي تستحق المباركة والدعم والتشجيع، ولنتذكر أن 60% من الشركات الأوروبية هي شركات عائلية، وهي تسهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدانها وتوفر فرص للعمل.
في إيطاليا هناك 200 ألف شركة عائلية صغيرة، وهناك 4,5 مليون مشروع صغير تمثل 95% من الأعمال التجارية في المملكة المتحدة.
الشركات الصغيرة، والمتوسطة تحتاج لدعم الدولة وتحديدا الدعم القائم على محاولة توفير البنية التحتية والخدمات العامة التي تسهل عمل هذه الشركات، وكذلك نقطة هامة جدا وهي مسألة القانون الضريبي في البلاد، هذه القوانين بحاجة لإعادة النظر فيها لأنها تثقل كاهل المستثمر وتتعامل معه بروح الجباية، فتتعدد مصادر وجهات من يطالبون بالضريبة على تنوع مسمياتها إضافة إلى الزكاة. هذا الأمر في الظروف العادية ينفر المستثمر وتدفعه للبحث عن بلد آخر يقدم تسهيلات للمستثمرين. فهل ستثبت الجهات الرسمية أنها تقدر حساسية الوضع الراهن، وصعوبة ما يواجهه المواطن من ويلات الحرب والحصار والأوضاع غير المستقرة، فتعمل على تحسين أوضاع الناس عبر الاهتمام بالوضع الاقتصادي والاستقرار الاقتصادي للأسر التي تبحث عن استقرار وأمن والاتجاه لرفع الوعي بين الناس لتبني المشاريع الصغيرة في كل المجالات.
الدولة إلى جانب المنظمات الداعمة التي تساهم بتقديم القروض والدعم والتدريب، ونشر قصص ناجحة عن المشاريع العائلية التي تسهم في دعم الاقتصاد وتقديم فرص عمل لعدد من العاطلين، وتحويل الأفكار الإبداعية إلى مشاريع وشركات ناشئة.
العمل الخاص يصقل مواهب ومعارف الإنسان، ويتيح للمرأة بشكل خاص إبراز دورها في المجتمع.
كما تعمل هذه المشاريع على دعم المنتجات المحلية، والتوسع للبحث عن أسواق خارجية مستقبلا، هذه الأعمال تعتمد على قروض صغيرة لتبدأ، وتساعد الناس على الحصول على فرص عمل، وتعزز حصولهم على دخل وبذلك تدعم القوة الشرائية لعدد من الناس.
أصحاب المشاريع يستحقون الدعم لما يقدمونه من خدمة لأنفسهم ولغيرهم وللمجتمع، وعلى الدولة توفير بيئة مناسبة لنمو تلك المشاريع، وسن القوانين المشجعة والداعمة، وتسهيل الإجراءات الإدارية لتشجيع هذه المشروعات وضمان استمراريتها ونموها بعيدا عن التعقيدات الإدارية وثقافة الفيد.
كما تستطيع الدولة أن تخطو خطوة بتشجيع أصحاب الأموال للمساهمة في الاستثمار في مشاريع الدولة لتحسين الخدمات وتقديمها بمعايير أفضل.
المشاريع الصغيرة هي أحد  الحلول العبقرية لنمو اقتصادي تحتاجه البلد في هذه الظروف، فالبطالة ستزيد من حدة الفوضى والأوضاع السيئة، فالشاب التائه دون أمل سيكون هدفا ممتازا للانخراط في مشاريع الحروب المشتعلة، فليكن الحل أن يجد الفرصة للانخراط في عمل يصقل خبرته وينمي قدراته ويدعم ثقته بنفسه وبمستقبل بلده.

https://nasejyemen.com/2019/07/29/%D8%A3%D8%AD%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%AC%D8%AD%D8%A7%D9%81-%D8%AA%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%AA%D8%B1%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%88%D8%B6%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF/?fbclid=IwAR2Rl1Kne5GI6WdExaFoudFEd1-rpOoJZ8shBX-e0GFhrvBTbpOcQKnQJAU

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصمت عار

فيلم Alpha

الكرد في اليمن، دراسة في تاريخهم السياسي والحضاري 1173 - 1454م لدلير فرحان إسمايل