أمين معلوف و غرق الحضارات

 

هل كانت الحياة في الماضي أجمل، أم حياتنا في الحاضر هي الأجمل؟

يشعر كثيرون بالحنين للماضي، للزمن الجميل. لكن مؤلف الكتاب أمين معلوف يؤكد أنه ليس ممن يحلو لهم الاعتقاد أن الأمور كانت أفضل من قبل. فالاكتشافات العلمية تبهره، وتحرر العقول والأجساد يبهجه، ويرى أن العيش في عصر مبدع ومبهج مثل عصرنا هو امتياز. 

يبدا أمين معلوف كتابه بلغة حميمية، يتحدث عن مشاعره ويقارن بحال الناس في الماضي، الذين عاشوا ظروف ثابتة لم تتغير لفترة من الزمن: “الذين يتراءى لهم أنهم زائلون في عالم ثابت لا يتغير؛ يعيشون في الأراضي التي عاش فيها أهلهم، يشتغلون مثلما اشتغلوا، يعتنون بأنفسهم مثلما اعتنوا بحالهم، يتعلمون مثلما تعلموا، يُصلون على المنوال نفسه، وينتقلون بالوسائل نفسها. لقد ولد أجدادي الأربعة وجميع أسلافهم منذ اثنى عشر جيلا في ظل السلالة العثمانية نفسها، فكيف لا يخالونها خالدة؟".

 

يشعرنا المؤلف بالقلق من الصفحات الأولى للكتاب بقوله: " غير أنني أراقب منذ بضع سنوات، انحرافات تبعث على القلق المتزايد، وتهدد بإفناء كل ما بناه جنسنا حتى الآن، كل ما نعتز به اعتزازا مشروعا، كل ما نعهد تسميته حضارة".

 

يعرج لسبب اختيار عنوان الكتاب بغرق الحضارات: " لقد استعنت بمفردات بحرية، لأن الصورة التي تقض مضجعي، منذ سنوات، هي صورة الغرق – سفينة حديثة، متلألئة، واثقة من نفسها، مشهورة بأنها لا تغرق، مثل التايتانيك، تحمل على متنها أعدادا غفيرة من الركاب من جميع البلدان والطبقات الاجتماعية كافة، وتمضي وسط الصخب نحو هلاكها". ويعود لتأكيد الفكرة: " أنني أرى بهلع جبال الجليد تلوح أمامنا، وأتضرع إلى السماء بورع، على طريقتي، أن ننجح في تفاديها". 

 

وعبر صفحات الكتاب ال 319 صفحة سيرسم للقارئ ملامح الصورة لتكون واضحة، ماذا يقصد بغرق الحضارات. 

يشير لبعض ملامح الغرق القادم مثل أحوال واشنطن عاصمة القوة العظمى الأولى في العالم التي يجدر بها أن تكون مثال الديمقراطية الناضجة وتمارس على الأرض سلطة شبه أبوية لكنها توحي لنا بالغرق الوشيك، لأن ما تمارسه في الواقع يتناقض مع شعاراتها عن الحرية والديمقراطية. 

انسحاب بريطانيا من الوحدة الأوروبية والتي حطمت أكثر الأحلام الواعدة في عصرنا. إن جموح الرأسمالية الفاحش بالفوارق الاجتماعية يوحي بما لا يدع مجال للشك بأنه غرق، على المستوى الإنساني والأخلاقي والسياسي.  

 

بعد رسم ملامح عامة للعالم يعود الكاتب للشرق، لعالمه وأمته العربية لنرى ملامحها بوضوح.

يبدأ بيوم مولده والمنطقة في أسوأ حال: "والرحلة إلى الجحيم كانت قد بدأت، ولن يقدر لها أن تنتهي".

 كانت عائلته تملك منازل في منطقة الأناضول وجبل لبنان والمدن الساحلية ووادي النيل، لكنهم سيفارقونها جميعا، لأن الأحوال في الشرق بدأت تتغير ولم يعد شيء كما كان. 

 

يأخذ القارئ في جولة مع الأحداث التي عايشها مع أسرته وكيف تغيرت أحوال الأسرة تغييرا دراماتيكيا بحيث يجد القارئ مثال حي وملموس يفهم من خلاله كيف تأثرت أحوال الناس بما حدث في المنطقة، وكيف سارت الأمور نحو الأسوأ بدل من السير نحو الأفضل. 

يحاول الكاتب أن يرصد بعض الأسباب التي أدت لهذا. قبل ولادته بأسبوعين اغتيل حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين ردا على اغتيال رئيس الوزراء المصري، كانت مصر تعيش أيامها حالة غليان. كانت المواجهات بين التنظيم الإسلامي وسلطات القاهرة مستمرة منذ عشرين عاما.  مصر في ذلك الزمن كانت وطنا ثانيا لأسرة المؤلف، والده كان معجب أشد الإعجاب بحياة مصر الثقافية الغنية، وشعرائها، ورساميها، وملحنيها، وبالمسرح والسينما والصحف ودور النشر فيها. 

وكان كثير ممن ذهبوا للعمل في مصر مثل جده كونوا ثروات وحصلوا على ألقاب نبيلة مثل باشا وكونت أو أمير. 

فمصر كانت توفر للمهاجر المكافح امتيازات لم تجد ما يضاهيها قط منذ ذلك الحين. وسيصبح الملحنون والمطربون والممثلون والأدباء والشعراء في مصر ولفترة طويلة نجوما في أنحاء العالم العربي كافة. أحمد شوقي الشاعر الملقب بأمير الشعراء كان رمزا لنهضة ثقافية عربية ساد الاعتقاد في ذلك الوقت بأنها حتمية، وبأنها وشيكة، وبأنها ستبزغ بالضرورة انطلاقا من وادي النيل. وهناك طه حسين أكثر المفكرين المصريين إجلالا في عصره، كان من الشخصيات المستنيرة يدعو الباحثين العرب إلى إعادة دراسة التاريخ بأدوات علمية معاصرة، عوضا عن اجترار الأفكار الموروثة عن القدماء. وحين طلب شيخ الأزهر أن يحاكم طه حسين بسبب أفكاره، رفضت الحكومة المصرية واعتبرت أن الأمر يندرج في إطار سجال أكاديمي عادي لا يجب أن يتدخل فيه القضاء. وعُين طه حسين في أرفع المناصب، وكان أول قرار اتخذه عندما كان وزير للمعارف هو إقرار مجانية التعليم. يذكر المؤلف كثير من الشواهد التي تظهر بوضوح أن مصر كانت بلد استثنائي في تلك الفترة، بلد يعيش حقبة مميزة من تاريخه. وفي أحد الأيام تبدلت أحوالها ولم تعد تبشر بالوعود التي يبدو أنها قطعتها.  

 

يسرد بحزن مصير أسرته التي عاشت طويلا في مصر، كان عليهم مغادرة مصر، بعد قرار الرئيس عبد الناصر الذي أعلن موت مصر الكوزموبوليتية والليبرالية. واتخذ جملة من التدابير تهدف لطرد البريطانيين والفرنسيين واليهود من البلد، بعد العدوان الثلاثي " وفي الحقيقة، أدت تلك السياسة إلى نزوح جماعي لجميع الطوائف التي يقال عنها متمصرة، وبعضها كان موجودا منذ أجيال، بل منذ قرون، على ضفاف النيل. " 

 

يعقد المؤلف مقارنات بين موقف عبد الناصر ونيلسون مانديلا الذي حرص على بلده وسعى لاستقرارها وعافيتها الاقتصادية ورأى أن من الأفضل للبلد بقاء الأقلية البيضاء، وشجع أعداء الأمس على عدم هجرة البلاد. 

 

وفي الستينات تحل بيروت محل القاهرة بوصفها عاصمة ثقافية للمشرق العربي، فرغم شهرة عبد الناصر عربيا إلا أن "سلطته ضيقت الخناق على الصحف ودور النشر والأوساط الأكاديمية والحركات السياسية. لذلك انتقلت ساحة السجالات العربية إلى أرض محايدة لا تهيمن فيها أي سلطة قمعية". 

وهكذا يتحول لبنان إلى" أرض اللجوء لفئات المنبوذين في الشرق الأوسط، مثلما فعلت مصر بعض الشيء حتى الأربعينات من القرن العشرين". 

" كانت مصر التي عاشت فيها أسرة أمي تنهار. لم تعد سوى ذكرى من الماضي، والشاهد المحتضر على عصر غابر. لقد سدد إليها عبد الناصر الضربة القاضية، ولن تنهض من جديد".

 

يستمر عرض المؤلف لتلك الأحداث الدرامية التي تجتاح الدول العربية، انقلابات، حروب أهلية، اتهامات متبادلة بالبحث عن حلفاء أقوياء من خارج الوطن. ويصبح لبنان مسرح لأحداث مأساوية.

"ومن البديهي أن ثمة أمرا خطيرا بل ومذهلا يحصل في هذه المنطقة، أسهم في اختلال عالمنا، وانحرافه عن السكة التي كان يجب أن يسلكها".

من خلال سيرة أهله وسيرة حياته يعرض لنا الكاتب تلك التناقضات والمآسي التي تجتاح المنطقة. وكيف يتأثر أهلها بأحداث وتوازنات عالمية لا يفهمونها. التنقل بين أحداث الماضي والحضارة المزدهرة لواقع شعوب أصبحت تائهة، يحاول المؤلف أن يفهم ما الذي يحدث فعلا، ولماذا تتصدع المجتمعات العربية التائهة في واقع لا تفهمه وهو يرصد الكثير من الأحداث والوقائع.

" عندما لا يعود باستطاعة المرء أن يمارس حقوقه كمواطن من دون الإشارة إلى اصوله الإثنية أو الدينية فهذا يعني أن الأمة بأسرها قد سلكت طريق الهمجية". 

 

ويبحر الكاتب عبر مختلف الفلسفات وأفكار المفكرين المعاصرين لفهم ما يحدث للإنسان المعاصر وللقيم الإنسانية ونحن نعيش مآسي متتالية. يعاني كثير من البشر وخاصة العرب من الفقر والتهميش والجهل والحروب التي لا تنتهي، فأين أحلام البشر بحياة معاصرة خالية من التعصب والتباينات بين البشر! 

ويقتبس الكاتب من رواية 1984 من كلمات المؤلف الذي حذرنا بأن الأفعال الوحشية القاتلة قد ترافق التقدم العلمي والابتكارات التكنولوجية، مما يؤدي لانحراف مسار البشر رغم ما أحرزوه من تقدم في ميادين عديدة لكنهم يقعون في فخ ضياع حرية التعبير والكلام والكتابة. فحياتنا المعاصرة "تسلع كل شيء: أذواقنا، آراؤنا، عاداتنا، وضعنا الصحي، معلومات الاتصال بنا والأشخاص الذين نخالطهم..."

 

هكذا يرصد الكاتب الكثير من المخاوف، ويحاول البحث عن تفسيرات لما يحدث في واقعنا من تناقضات، لينهي الكتاب وهو يتمنى أن نستخلص الدرس قبل أن تصفعنا المصائب صفعا، حتى لا يكون مصير البشرية كمصير سفينة التيتانيك التي اصطدمت ليلا بجبل جليدي، بينما الأوركسترا تعزف. 

 

يلخص لنا الكاتب أفكاره وتحليلاته لنصف قرن وهو يتأمل أحداث العالم المضطرب ويحاول البحث عن حلول لسفينة العالم قبل أن تغرق رغم حضاراتها وتفوقها التكنولوجي لكنها تغرق في مشاكلها الأخلاقية المتعددة. 

 

حاز هذا الكتاب على جائزة اليوم 2019 – جائزة التحكيم الخاصة بالكتاب الجيوسياسي.

https://mirdad.app/articles/4510/%D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%81-%D9%88-%D8%BA%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA 

 


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصمت عار

فيلم Alpha

الكرد في اليمن، دراسة في تاريخهم السياسي والحضاري 1173 - 1454م لدلير فرحان إسمايل