تمثل الرواية اليمنية اليوم نافذة مهمة لفهم التحولات
الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البلاد، حيث باتت تتناول قضايا الحرب والنزوح
والفقر والصراعات المختلفة، إلى جانب تسليط الضوء على الموروث الشعبي والثقافي. في
هذا السياق، برزت أسماء أدبية عديدة استطاعت أن تعكس هموم المجتمع من خلال السرد،
ومن بين هذه الأسماء الروائية أحلام جحاف، التي تميزت أعمالها بتناولها العميق
للواقع اليمني، ورصدها لمعاناة الإنسان في ظل الأزمات المتلاحقة.
في هذا الحوار، نتناول مع الكاتبة رؤيتها للواقع الأدبي في اليمن، وكيفية تفاعل الرواية مع القضايا الحساسة، إضافةً إلى مناقشة دور الأدب في مقاومة الموروثات التقليدية، وتأثير الظروف السياسية والاقتصادية على الإنتاج الأدبي. كما نناقش موقفها من مصطلح "الأدب النسوي"، ووجهة نظرها حول الصراع بين الأجيال، وتأثير العادات والتقاليد على المرأة في المجتمع اليمني.
حوار/ يحيى اليازلي
- كيف بدأت رحلتك مع الكتابة؟ ومن كان له التأثير الأكبر في مسيرتك الأدبية؟ وما هي التحديات التي واجهتك كامرأة تكتب في اليمن، كيف نظرين لمصطلح الأدب النسوي؟
القراءة تمهد للكتابة... وأنا أعشق القراءة منذ سن مبكرة... والدي رحمه الله علمني القراءة والكتابة قبل سن المدرسة... كان قارئا نهما وكبرت وأنا محاطة بالكتب... لوالدي مكتبة عامرة.... كتبت اليوميات من أيام المدرسة وكان معي دفتر خصصته لكتابة القصص الخيالية وكانت الطالبات يتناقلنه... وللأسف اختفى ذلك الدفتر وحزنت كثيرا... ولم أعرف من أخذته...
وقد تأثرت بما شهدته الرواية اليمنية في السنوات الأخيرة؛ إذ بدأت تواكب إلى حد كبير التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد، ويمكن رصد ذلك من خلال ملاحظة المواضيع التي تناقشها الرواية من القضايا المعاصرة مثل قضايا الحرب والصراعات السياسية، وتأثيرها على حياة الناس، وغيرها من القضايا الاجتماعية مثل الفقر، والبطالة، والتمييز، وقضايا المرأة.
أما بالنسبة للحراك الثقافي النسوي في اليمن، فأنا لست مع المصطلح من الأساس، فمن وضع مصطلح أدب نسوي لا أفهم دوافعه لأن الأدب هو أدب إنساني يهتم برصد هموم المجتمع نساء ورجالاً، والمصطلح فيه تمييز ضد المرأة من وجهة نظري وعزل لقضاياها كأنها تعيش بمعزل عن العالم.
وأبرز التحديات هو ما تعانيه المرأة من الظلم والتهميش وكذلك الرجل في مجتمع يعاني من سقف منخفض للحرية وفهم مغلوط لكثير من المصطلحات والمسميات، وخلق صراع بين الرجل والمرأة ليس من مصلحة أحد بل يؤدي لتشتت الجهود.
-كيف تصفين طريقتك في
السرد؟ وما هي الموضوعات التي تجدين نفسك ميالة لكتابتها باستمرار؟ وهل تؤمنين بأن
على الروائي الالتزام بقضايا مجتمعه أم أن الإبداع حرية مطلقة؟
لكل كاتب طريقته في السرد أو ما يسمى بصوته الخاص... أنا أكتب وأترك هذا الوصف للقارئ وخاصة للنقاد... لأني عند الكتابة أجدني أكتب منغمسة بالكتابة ولا أتوقف للتفكير بطريقة السرد، السرد بالنسبة لي يعتمد على الموضوع وشخصيات العمل والفكرة، كيف تصل الفكرة للقارئ!
وبالنسبة لي فإني أميل للكتابة عن معاناة الناس في مجتمعنا، مجتمعنا لايزال مجهولاً وقضاياه مغيبة وتاريخنا مجهول أو مشوه ويحتاج أن نكتب عنه وعن الإنسان المهمش فيه.
صحيح أن الإبداع حرية مطلقة ومن الصعب أن يملي عليك أحد أن تكتب عملاً أدبياً عن موضوع معين، على الكاتب أن يعيش المعاناة ويتقمصها حتى لو لم تكن تجربة شخصية بل لآخرين، لكن إذا لم ينغمس بمشاعره في تلك التجربة سيكون العمل باهتا والشخصيات لا لون لها؛ فالقارئ يتفاعل مع العمل الذي يجد فيه صدى لتجاربه وشيء من معاناته بحيث يستغرب كيف استطاع الكاتب أن يصف هذه المشاعر بدقة.
- كيف أثرت الظروف السياسية والاقتصادية على
الإنتاج الأدبي في اليمن؟
هذه الظروف أثرت بشكل كبير على الإنتاج الأدبي في اليمن بسبب انشغال عدد كبير من الأدباء والمنشغلين بالأدب بقضايا لقمة العيش، وتعثرت عمليات النشر بسبب توقف أو صعوبة عمل دور النشر المحلية، بسبب هذه الظروف هاجر عدد من الأدباء خارج اليمن مما أثر على الإنتاج الأدبي داخل البلد.
مواضيع الأعمال الأدبية تأثرت أيضا وأصبح أغلبها يتناول مواضيع الحرب والصراعات والنزوح والفقر والمعاناة الإنسانية، وأيضا القارئ تأثر وضعه الاقتصادي وتراجع اهتمامه بالكتاب الذي أصبح نوع من الترف يصعب الحصول عليه.
- شهدنا ازدهارًا في أدب
السيرة الروائية والرواية الذاتية؛ كيف تنظرين إلى هذا النوع من الكتابة؟ وهل ترين
أن المزج بين التجربة الشخصية والخيال يثري العمل الأدبي أم يحد من انفتاحه؟
أدب السيرة الذاتية من أكثر الأعمال الأدبية شهرة، وتجيب القراء بدافع الفضول والبحث عن الحقائق وفهم أسباب ما حدث من أمور غامضة، هو أدب عالمي له مكانته؛ لكن المشكلة في البلاد العربية هي التحفظ وصعوبة كتابة كل شيء بشفافية كما يحدث في العالم الغربي...
ويميل العربي للظهور بصورة مثالية خالية من العيوب وكأنه منزه عن أي خطأ... لهذا لا نتعلم من دروس الحياة ولا نكتسب خبرة...
والمزج بين الخيال والحقيقة يثري العمل الأدبي بشرط عدم اللجوء لتشويه الحقائق وتزوير التاريخ والإساءة المتعمدة للآخرين... لكن الخيال بصفة عامة جميل...
- كيف تتقاطع
حياتك الشخصية مع القضايا الثقافية الأوسع في اليمن؟ وهل ترين أن السرد الشخصي
يمكن أن يكون نافذة لفهم تحولات المجتمع وتحدياته؟
الكاتب جزء من المجتمع الذي يعيش فيه... فتجاربه الشخصية وأفكاره ومشاعره تتشكل داخل هذا المجتمع وتتأثر بكل ظروف البلد...
وبالتالي ما يكتبه الكاتب يعبر عن قضايا المجتمع وهمومه... بل أستطيع القول إن السرد الشخصي يعد وثيقة تاريخية مهمة تسجل تحولات المجتمع وتحدياته... ويقدم رؤية إنسانية عميقة للواقع ويكشف عن الجوانب المخفية للحياة في اليمن .
- كيف تجدين تفاعل
القراء مع أعمالك، خاصة تلك التي تتناول قضايا حساسة في المجتمع اليمني؟
لا أستطيع الحكم على تفاعل القراء مع أعمالي لأن ما أكتبه نشر خارج اليمن ولم يصل للقارئ في اليمن.
وما يقال لي من العدد القليل الذي تمكنوا من الحصول على نسخ قليلة أعده من باب المجاملة.
- برأيك، ما هي أبرز
القضايا التي تواجه المرأة في الحكاية الشعبية اليمنية؟ وهل تعتقدين أن هذه
الحكايات أنصفت المرأة أم كرّست صورًا نمطية تؤثر على وضعها؟
صور المرأة في الحكايات الشعبية متنوعة هناك قصص تصورها غبية لا رأي، لها لكن هناك قصصاً تصفها بالحكمة وسداد الرأي وسعة الحيلة وذلك التصوير هو انعكاس لرأي المجتمع وثقافته، ومجتمعنا لايزال حتى اليوم يعيش نوع من العزلة عن العالم وبالتالي تلك القصص ليست غريبة ولاتزال النظرة الدونية للمرأة والسخرية تكون بوصف الرجل أنه امرأة.
- في مجتمع يتشبث بالخرافة رغم الأدلة العلمية، ما هو الدور الحقيقي للأدب في هدم هذه المعتقدات؟ هل يمكن للقصة أن تكون أقوى من البرهان العلمي؟ وهل تعتقدين أن الخرافة تؤدي وظيفة نفسية أو اجتماعية تجعل المجتمع متمسكًا بها رغم تناقضها مع العقل؟
الأدب لا يقدم حلولاً أو إجابات لكنه يلعب دوراً محورياً في تفكيك المعتقدات الخاطئة لأن الأدب يخاطب القلب، يلامس العاطفة لكن البرهان العلمي يخاطب العقل وهذا يصعب على كثير من الناس فهمه والتعامل معه .
كما أن الأدب يثير المشاعر ويخلق تجارب عاطفية قوية فيجعل الأفكار أكثر رسوخاً، فالحكاية في الأدب تجعل الأفكار المجردة ملموسة مما يسهل على القارئ فهم وتقييم تلك الأفكار التي تتجسد على هيئة شخصيات وأحداث في الرواية أو القصة.
بالإضافة لذلك فالأدب لا يقدم إجابات جاهزة بل يطرح أسئلة ويشجع القارئ على التفكير النقدي عبر تقديم التناقضات في التفكير الخرافي، وهو يوفر بدائل قد تظهر على لسان الشخصيات ويحتاج القارئ أن يفكر فيها لفترة من الوقت حتى تترسخ ويفهمها.
أما بالنسبة للخرافة فهي بالفعل تلعب دوراً نفسياً وتفسر ما يصعب فهمه وتمنح المرء الشعور بالأمان في عالم متسع يصعب فهم كل حقائقه فهي تقدم تفسيرات بسيطة ومقبولة بعيداً عن تعقيدات التفسيرات العلمية.
ويصعب محاربة الخرافة بالتحريم والسخرية؛ بل تحتاج وقتاً وجهوداً وتعليماً حقيقياً يبسط الحقائق ويشجع على التفكير الناقد بمناهج مختلفة جذرياً عن المناهج التعليمية الحالية.
- في قصص مثل "الزنيحية" يظهر الصراع بين الأجيال جليًا؛
برأيك، هل التمرد على السلطة الأبوية هو الطريق الوحيد للتغيير؟
الصراع بين الأجيال هو جزء من الواقع خاصة في المجتمعات الحية التي تتحرك للأمام ولا تقف في المكان نفسه لمئات السنين، في مجتمعاتنا يتم قمع التمرد على السلطة الأبوية بدعوى احترام الصغير للكبير وأن الكبير دوماً على حق وهو أكثر خبرة وتجربة.
لكن الأجيال الأصغر غالباً تميل لتحدي الأعراف والتقاليد التي تقيد حركتهم وتتعارض مع الأفكار الجديدة.
وهذا الصراع ليس حتمياً لو أن الجيل الأكبر يتبنى الحوار وقبول آراء الأجيال الأصغر، خاصة في عصرنا فالجيل الأكبر سنا يمكن أن يتواضع ويتعلم من الجيل الأصغر سناً، والجيل الأصغر يستفيد من حكمة الجيل الأكبر.
لكن تعنت الكبار يؤدي للتمرد ورفض كل ماله علاقة بالجيل السابق وللأسف هذا قد يؤدي لضياع كثير من التقاليد والقيم الجميلة وبالتالي يؤدي لتغيرات لا تكون بالضرورة إيجابية، وأنا مع الحوار بين الأجيال.
- في مجموعتك "لست سوى امرأة"، المرأة تبدو أحيانًا ضحية
وأحيانًا أخرى جزءًا من دائرة الاستعلاء؛ كيف توازنين بين هذين الدورين؟
في هذه المجموعة سعيت لأن تكون الشخصيات تعبيراً عن الواقع الذي تكون فيه المرأة أحيانا ضحية وأحيانا هي الجانية، هذا جزء من الواقع؛ فهناك امرأة ضحية، وقد تكون ضحية لامرأة أخرى وليس بالضرورة أن يكون الجاني رجلاً، ونعرف رجالاً وقعوا ضحايا لنساء لا يعرفن الرحمة، من المبالغة أن نقول أن المرأة دوما ضحية .
-
إلى أي مدى تشعرين أن الأدب يمكن أن يسهم في تغيير النظرة المجتمعية للمرأة؟ هل
تعتقدين أن الأساطير الشعبية لا تزال تؤثر في العقل الجمعي اليمني؟ وهل ترين أن
للأدب دورًا علاجيًا في معالجة الجروح النفسية الناتجة عن العادات الاجتماعية
القاسية؟
الأدب سيكون له أثر في وجود القارئ... لا أملك إحصاءات تكشف حجم القراءة في مجتمعنا...
لكن من متابعة من نعرفهم من حولنا يبدو أن نسبة القراء متدنية... ودون قارئ نهم يحب متابعة كل ما يكتب ستظل مشاكلنا كما هي.. لأن ارتفاع الوعي بين الأفراد يلعب دوراً مهماً في خلق مجتمع أكثر وعيا ولديه قابلية لفهم مشاكل المجتمع والإحساس بها والبحث عن حلول... وهذا يحتاج إعادة نظر للمناهج التعليمية حتى في الجامعات...
المدرسة التي لا يتخرج أغلب الطلاب منها وهم على علاقة طيبة بالكتاب هي مدرسة لا تلعب دورها الحقيقي... وبالتالي ما قيمة أدب لا يصل لأيدي القراء!!!
- في "إضرام النيران"، كيف تعالجين فكرة اغتراب المرأة
عن ذاتها بسبب القيود الاجتماعية والثقافية؟ وهل تعتقدين أن التجربة التعليمية
للمرأة اليمنية هي صراع بين تحقيق الهوية الفردية والخضوع للتقاليد الجمعية؟ وكيف
يمكن للمرأة المعلمة أن تعيد تعريف دورها خارج الإطار النمطي الذي يفرضه المجتمع؟
إضرام النيران عكست الصراع الداخلي الذي تعيشه الشخصية بين القيود التي تكبلها وما تريد تحقيقه في الواقع... فهناك قيود تفرضها الإدارة المدرسية وتتعارض مع مصلحة الطالبات وحتى العملية التعليمية...
فالمعلمة مرغمة على الالتزام بقوانين غير منطقية ولأن
الإدارة لا تتقبل أي نقد أو توضيح لخطأ يمكن تلافيه فيتحول العمل لمجرد إجراء
روتيني يفقد أهميته ووظيفته الحقيقية؛ فالإدارة تهتم فقط بالشكليات...
وأنا أتفق مع أن التجربة التعليمية للمرأة اليمنية هي صراع بين تحقيق الهوية الفردية والخضوع للتقاليد الجمعية... لأن من تناقضات مجتمعنا أنهم ينادوا بضرورة التعليم وخاصة للفتيات لكنهم ضد أي تغيير في المجتمع... هناك إصرار على أن يبقى المجتمع كما هو بالثقافة ذاتها ودون الاهتمام بحقيقة تغير العصر والزمن... لهذا تعيش أغلب الأسر اليمنية تناقضاً غريباً فهي تمارس حياتها خارج اليمن بالشكل الذي تحرم هي على نفسها فعله داخل اليمن وهذه كارثة خاصة أنها تحدث من شخصيات وعائلات تحكم ولها سلطة...
و المرأة المعلمة في مجتمعنا اليمني تستطيع أن تكون قدوة للطالبات فيكتسبن منها قوة الشخصية والطموح ويمكنها أن تنشر الوعي بينهن بحقوقهن... لكن دور المعلمة لوحدها سيظل قاصراً لأن قيود المجتمع تكبح الجميع... فالفتاة ستتزوج وستجد كل ما تعلمته مجرد أفكار نظرية...
لذا؛ فالأمر أكبر من قدرة المعلمة هو بحاجة لتظافر جهود شخصيات واعية ومثقفه من كل المستويات وتؤمن بضرورة حدوث تغيير حقيقي في مجتمعنا اليمني... لأن المشكلة من وجهة نظري لا تكمن في المرأة فقط بل في الرجل لأن العادات والتقاليد تكبل الجميع بدرجات متفاوتة...
وأنا لست ضد العادات والتقاليد، لكن العادات والتقاليد تتغير بتغير الزمن لأنها تعبر عن ثقافة المجتمع وتفاعل أفراده مع متطلبات العصر... ففي مجتمعنا هناك حاجة لتحرير العقل من سلطة الماضي والقبول بأننا أبناء عصر مختلف وهذا لا يعني الانسلاخ عن الثقافة والعادات والتقاليد بل تطوير كل ذلك... نحن من يفعل ذلك لا أن يفرض علينا.
- هل يمكن للكتابة أن تكون
وسيلة للتحرر الشخصي؟ وكيف توازنين بين الكتابة كأداة للبوح والالتزام بقضايا
المجتمع؟ إلى أي مدى يمكن اعتبار التعليم في الرواية وسيلة للخلاص الروحي
والمعرفي، وليس فقط كوسيلة للترقي الاجتماعي؟
الكتابة توفر مساحة للتعبير عن المشاعر والأفكار التي يصعب التعبير عنها في الحياة اليومية...
كما تسمح للكاتب باكتشاف جوانب مختلفة من شخصيته... وهي وسيلة لفهم أنفسنا بشكل أعمق...
وبالكتابة يمكن تجاوز القيود الاجتماعية وغيرها من القيود إلى حد ما... لكن لايزال سقف الحرية في مجتمعاتنا العربية منخفض والسقف أكثر انخفاضا في مجتمعنا اليمني لهذا يحاسب الكاتب على كل كلمة..
رغم أن الأدب يوفر مساحة لتحدي الأعراف والقيم السائدة ويترك للكاتب الحرية للتعبير عن رأيه... وهذا في صالح المجتمع ولكن في واقع الأمر يشهر في وجه الكاتب سلاح التكفير والاتهام بالخروج عن تقاليد المجتمع المحافظ... ومجتمعنا يرفض وبإصرار عجيب الاعتراف بمشاكله وسلبياته وينكر وجودها...
ومع أن المجتمعات الحية تستفيد من الأدب لإصلاح الخلل بعد
الاقتناع بوجوده والبدء بنقاش حوله والبحث عن الأسباب والحلول... لكن نحن نصر أننا
مجتمع فاضل لا يعيبنا شيء... وأي نقد أو إشارة لما يحدث من سلبيات وجرائم وغيره هو
تشويه لمجتمعنا المثالي ونوع من إشاعة للفاحشة داخل هذا المجتمع البريء
جداً... وما شابه...
والتعليم الحقيقي يوسع الآفاق عبر اكتساب طرق التفكير النقدي وإخضاع كل شيء للنقد وعدم تقبل أي معلومة كحقيقة قبل البحث عن مصدرها... هذا يعني أن التعليم يساعد على إحداث تغيير في السلوك يقاوم سلبيات المجتمع...
فالتعليم يمكن أن يساعد على النمو والتطور على المستويين الروحي والمعرفي برفض أن تكون الشخصية مجرد متلق لأوامر ضد قناعاتها وما تؤمن به...
- لماذا اخترتِ عنوان "إضرام النيران" تحديدًا؟ وهل كان
لسقراط تأثير خاص على تجربتك التعليمية؟ وكلمة "النار" في العنوان تحمل دلالات
رمزية عميقة؛ هل تمثل التطهير، الثورة، أم صراع الذات مع قيود الواقع؟
- وقفت كثيرا أمام قول سقراط: التعليم هو إضرام النيران، وليس ملء الوعاء “لأن ما رأيته أثناء عملي في مجال التدريس هو ملء أوعية... حتى تجربتي كطالبة... أغلب المعلمين كانوا يهتمون بملء الوعاء فعلا...
ماذا نسمي تلقين الطالب الأجوبة التي ستأتي في الامتحان؟ وتحديد مواضيع بعينها للتركيز عليها وحفظها... حفظها كما هي دون فهم للنجاح في الامتحان والحصول على درجات عالية والاهتمام بنسبة النجاح في المدرسة؟ استفزتني العبارة بشدة وكانت فعلاً تلخص مأساة التعليم التي شهدتها...
والنار في العبارة ترمز لدور التعليم في تنمية القدرة على التفكير الحر والإبداع في المتعلم، و أن يغرس التعليم فيه الرغبة في اكتشاف الجديد والتمرد على الأفكار التقليدية السائدة والبحث عن أجوبة لكل الأسئلة التي تثار... فالتعليم حسب سقراط يشعل الفتيل... يقدح الفكرة ويترك الباقي للمتعلم الشغوف بالمعرفة للبحث والاكتشاف وهذه عملية لا تتوقف بالتخرج من المدرسة...
لكن ما يقوم به التعليم من تلقين وملء أوعية فهو يقضي على أي فرصة للتفكير... المعلم يفرض ويحدد الإجابة بل يفعل ذلك الدكتور في الجامعة والذي يتعمد رسوب الطالب الذي يخرج عما قاله في محاضراته...
كما أن التلقين يلغي القدرة على التفكير وينتج أفراداً يسلمون عقولهم لمن يديرها يميناً أو شمالاً... وهذا يناسب السلطة السياسية...
- كيف ترين تأثير التيارات
السياسية، خاصة تأثير الإسلام السياسي الذي ذكرته الرواية، على العملية التعليمية؟
- التيارات السياسية المتشددة والتي لا تعترف بالآخر وتعمل على شيطنته والدعوة لمحاربته... أثرت بشكل سلبي وخطير على كل المجتمع اليمني وعلى التعليم... في الرواية إدارة المعاهد التعليمية ترفض تعيين المعلمة لأنها تشترط زياً وهيئة محددة لزوج المعلمة... كما تمارس نوعاً من الضغط على المنتسبين لها لنشر الآراء السياسية التي تلائمها في المدارس بمحاولة بيع تلك الشرائط للدعاة...
- ما الذي أردتِ تجسيده من خلال شخصية العم عبدالله في الرواية،
كيف وظفتِ الرمزية في ربط الشخصيات الواقعية بالأفكار الفلسفية لخدمة القصة؟
العم عبدالله أو "أبي عبد الله" كما يناديه الجميع، هو تجسيد لفكرة أن ليس كل ما هو قديم هو بالضرورة سيء... الاستفادة من خبرات الماضي تدل على الحكمة... الرمزية في العمل الأدبي تسمح بتجاوز الواقع المباشر وإضافة أبعاد جديدة للقصة، وتحويل الأفكار الفلسفية المعقدة إلى صور ملموسة قابلة للفهم... مع ترك مساحة للقارئ لتفسير تلك الرموز بطريقته الخاصة...
- هل لديكِ مشاريع روائية
جديدة تتناول قضايا مشابهة؟ هل تخططين لاستكشاف مواضيع جديدة في أعمالك القادمة،
أم ستواصلين الغوص في قضايا المجتمع التقليدي؟
نعم هناك أعمال أدبية انتهيت منها... المشكلة هي في إيجاد دار النشر التي تهتم بنشر وتسويق العمل...
الغوص في قضايا المجتمع التقليدي يستحق أكثر من عمل، لكن استكشاف مواضيع جديدة مغامرة تعاملت معها بكتاب في أدب الرحلة لم ينشر بعد...
- برأيك، هل يمكن تحويل
"إضرام النيران" إلى عمل تلفزيوني؟ وإن كان كذلك، كيف تتخيّلين أن يُعرض
هذا العمل؟
ليس من السهل تحويل عمل أدبي إلى عمل تلفزيوني... وهذا يتطلب مخرجاً متميزاً يفهم العمل الأدبي وعنده القدرة لتحويله إلى عمل تلفزيوني مؤثر، ولا يمكن إغفال دور كاتب السيناريو والممثلين... بمعنى هو عمل لفريق متكامل وليس دور الكاتب التفكير في هذا...
- كيف تصفين دور الأدب في
معالجة قضايا التعليم والتغيير الاجتماعي في اليمن؟
كما قلت سابقا الأدب لا يقدم حلولاً لمعالجة القضايا... بل يلفت الانتباه لتلك القضايا عن طريق عرضها وتقديمها بشكل إبداعي داخل العمل الإبداعي ربما عن طريق تصوير معاناة الطلاب أو المعلمين...
والأدب يساهم في الحفاظ على الذاكرة الجماعية للأجيال القادمة عبر نقل صور حية للواقع... والقارئ يتفاعل مع ما يقرأ وتدفعه تلك الصور للتفكير في رداءة الواقع والحاجة للتغيير...
- كيف تعتقدين أن القصص التي تُروى للأطفال بدافع التربية أو
التخويف تشكل وعيهم النفسي والاجتماعي على المدى الطويل؟ هل تعتقدين أن الخوف يمكن
أن يكون أداة فعالة للتربية، أم أنه يترك آثارًا نفسية يصعب التخلص منها لاحقًا؟
القصص والحكايات أداة فعالة في التربية... ونلاحظ أن القرآن استخدم القصص؛ فالقصص لها تأثير كبير على نظرة الطفل لذاته... كيف تقدم الشخصيات للطفل كأبطال أم شخصيات ضعيفة!!!
وهل تركز على الصفات الإيجابية أم السلبية... مع محاولة البعد عن الشخصيات المثالية لأن لا وجود لها في الحياة وهي غير قابلة للتطبيق في الحياة والطفل ذكي يعي ذلك... وأيضاً تجنب قصص الوعظ المباشر فأثرها ضعيف وهي غير جذابة... القصص تعلم الطفل القيم وكيف يتعامل مع الآخرين...
مع ملاحظة أن الطفل ذكي ويحلل ما يروى له ومن الخطأ استغفاله... كما أن التخويف والقصص المرعبة تسبب القلق وانعدام الثقة بالنفس والكوابيس الليلية والأفضل أسلوب التعزيز والتشويق...
- في قصصك، يظهر أن المرأة ضحية للأنظمة الاجتماعية والموروثات؛
كيف ترين إمكانية التحرر من هذه القيود دون القطيعة مع الجذور الثقافية؟
تحرر المرأة من الموروثات التقليدية لا يعني بالضرورة القطيعة مع الجذور الثقافية... هذا فهم خاطئ...
المرأة في قصصي تعاني من قيود موجودة في المجتمع والقيود تكبل الرجل والمرأة لكن قيود المرأة مضاعفة... نحن بحاجة للنظر لتراثنا وموروثنا الثقافي بنظرة نقدية موضوعية... ليس كل ما هو موروث سيء... لكن هناك سلبيات تعيق حركة المجتمع لأن الزمن تغير ومن الخطأ الإصرار على التمسك بمفاهيم تجاوزها الزمن... لست مع النسف والثورة التي تطيح بكل شيء فهذا نوع من الفوضى... أنا مع الفهم والتبصر والتحليل والنظر بموضوعية لمعرفة طبيعة العصر ومتطلباته... هذا يحتاج لفتح أبواب حوار ونقاش عام يتناول كل قضايانا دون استثناء دون تشدد ولا استهتار... مع اليقين أن التغيير لا يعني التخلي عن الهوية الثقافية بل عن عادات تجاوزها الزمن، ونحتاج أن نتمتع بثقة أكبر بقدراتنا وأنفسنا...
- كيف يمكن للأدب أن يعيد صياغة صورة المرأة في مجتمع يُكرس النظرة
الدونية لها؟ وهل ترين أن التغيير يبدأ من النص أم من الواقع؟
فهم الواقع وسلبياته يحتاج لتسليط الضوء على ذلك... الأدب يستطيع خلق مساحة للحوار والتفكير في شتى المواضيع... عندما ترتفع قيمة الأدب في المجتمع وتدار ندوات وحوارات حول ما يكتب... عندها تناقش تلك الأوضاع من زوايا مختلفة... القضايا الاجتماعية لا يمكن حلها بسهولة لكن البدء بذلك خطوة مهمة عبر الاهتمام بما يكتب... والتغيير يبدأ من النص والواقع معا لأن الواقع مصدر إلهام للأدب، والأدب يكون أداة للتغيير عندما ينجح بلفت الانتباه للقضايا التي يثيرها...