البحث عن الحقيقة في كتب المذكرات والسير الذاتية

 

 

 لماذا نقرأ كتب المذكرات والسير الذاتية؟

إذا كانت الإجابة: لأننا نبحث عن الحقيقة بلسان من عاشوها، فهذا يدفعنا للتساؤل أيضا: هل كتب السير الذاتية العربية تذكر حقا كل الحقائق؟ أم أن صاحبها يقع تحت تأثير الخوف من تعرية الذات أمام الآخرين، أو التسبب بالحرج لآخرين سيعارضون نشر ما كتب؟

القارئ يتوقع أن تكشف له كتب المذكرات شيء من الأسرار والحقائق المخفية. لأن هذا النوع من الكتب لا يؤرخ لصاحبه فقط، وإنما يؤرخ للعصر الذي كان يعيش فيه.

وكتابة المذكرات والسير الذاتية فن عريق عرفته أغلب الشعوب، وتكون الرؤية فيها عادة موضوعية، وهي مصدر مهم للتاريخ، ويلجأ لها المؤرخون لأنها مصدر أولي ولها قيمة كبيرة.

المشكلة تكمن في غياب الشفافية، وخاصة في ظل أنظمة تعتمد التعتيم على الحقائق في حينها عبر وسائل الإعلام الرسمية. وهناك من يكتب مذكراته بعد تجميل تلك المواقف التي قد تحرجه أمام القراء، أو ببساطة لا يذكرها.

 في كتاب" اليمن حقائق ووثائق عشتها 1943 إلى 1962 - الجزء الأول"، يقول الشيخ سنان أبو لحوم في مقدمة الكتاب: لقد سجلت هذه المذكرات باعتباري مشاهد أو مشارك في الأحداث وطرفا من أطرافها، تحريت نقل الحقائق كما جاءت في الواقع دون ميل أو تدخل.

من هو الشيخ سنان أبو لحوم:

شيخ مشائخ قبائل بكيل اليمنية (1922 -2021)، يعد من أبرز القيادات القبلية في تاريخ اليمن المعاصر ولعب دور في ثورة 26 سبتمبر مع مختلف الثوار وقادة الحركة الوطنية المعارضة لحكم الإمام، كما ذكر في مذكراته. ولعب دور بارز في الحياة السياسية اليمنية بعد قيام الجمهورية نظرا لمكانته الاجتماعية.

إبعاد ما لا لزوم له:

نجد الناشر في مقدمته لكتاب الشيخ سنان يذكر ما حدث بعد صدور الطبعة الأولى من الكتاب:

 " إلا أن كثير من القراء لم يكونوا راضيين عن الشكل النهائي الذي أخرج به الكتاب .... وجرى الحديث حول ترتيب وإعادة النظر في الكتاب وصياغته وإخراجه بصورة تليق بصاحب الكتاب والوثائق والحقائق التي تضمنها كتابه .... وتم ذلك، وبدأ في تقويم الكتاب وغربلته ووضع كل بحث أو وثيقة أو.أو إلخ...في مكانها وإبعاد ما لا لزوم له" .

إبعاد ما لا لزوم له، هذه العبارة يمكن أن يفهمها القارئ وهو يقرأ صفحات الكتاب ليعرف ما حدث للكتاب. لقد تم إفراغ الكتاب من كثير من المعلومات والحقائق وتحول لسرد غريب ليوميات لا تذكر شيء يفيد القارئ. على سبيل المثال في صفحة 328:

 " وضيفونا وتحدثنا حول المشاكل والخلافات، وكان الموقف بينهما وبين الأستاذ الزبيري والنعمان متأزما..."

ولا يعرف القارئ ما حقيقة الخلافات والمشاكل، وما أسباب تلك الخلافات. وفي صفحة أخرى:

 " وسمرنا عنده وتحدثنا في كل شيء وكان مبسوطا باتفاقنا... تحدثنا في كل شيء".

لا يجد القارئ أي معلومات ليفهم عما تحدثوا وسبب الانبساط بالاتفاق، وماذا كان الاتفاق!

 وهكذا في كل صفحات الكتاب: " واتصل بي عبد الرحمن البيضاني، وتواعدنا ثم التقيت الأستاذ الزبيري ومعنا محسن العيني وتحدثنا حول الموقف..." أي موقف؟ لا معلومات؟

اختفاء عدد من الوثائق:

يقول كاتب المذكرات الشيخ سنان في مقدمة الطبعة الثانية أنه كان يملك عدد كبير من الوثائق والرسائل والمذكرات اليومية التي كان يحرص على تدوينها أولا بأول حتى لا تضيع من الذاكرة لكنه وقع ضحية الثقة التي لم يعمل لها حساب فقد سلم جزء من المذكرات والوثائق لعدد من الأشخاص، يذكر أسماؤهم في الكتاب، لكنهم لم يعيدوها إليه كاملة رغم مطالبته المستمرة لهم بإعادتها إليه. ويذكر أنه في هذه الطبعة: "تم تنقيح الكتاب بعد لقائه بعدد من الأخوة والأساتذة: أحمد جابر عفيف، والدكتور عبد العزيز المقالح، أحمد حسين المروني، محمد عبد الله الفسيل، أحمد عبد الرحمن المعلمي، مطهر الإرياني، سعيد الحكيمي، عبد الله عبد السلام صبرة، أحمد حيدر. وقد أخرجنا هذه الطبعة بالصورة التي أجمعت عليها آراؤهم، فشكرا لهم ولكل من ساهم بملاحظاته من القراء والمهتمين."

وهكذا خرج الكتاب إلينا بعد تنظيفه على ما يبدو من كل عيب من وجهة نظر أولئك ومن كل حقيقة، فكتب السيرة الذاتية التي تمتلئ بالحقائق تفضح سير المعاصرين، مما يسخطهم ويخشون على صورهم التي رسموها خالية من كل عيب ونقيصة، كصور القديسين والأنبياء فنجد بين أيدينا سيرة لا تمت للواقع بصلة وخالية من أي معلومة ذات قيمة.

المذكرات والسير الذاتية، ومحنة الحقيقة:

كتابة المذكرات هي عمل توثيقي يختلف عن كتابة السيرة التي هي جنس أدبي مصنف كما الرواية والشعر والقصة.

هي كتب تصبح سبيل لمن يبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة، وتفسيرات لما أستغلق فهمه. ممن اقتربوا من صناعة الحدث. ووجدت تفسير لما حدث في ورقة بحثية للدكتور عثمان الزياني بعنوان: (المذكرات السياسية كأسلوب لمواساة الذات: الذاكرة المكبلة ومحنة الحقيقة).

الكتابة من الذاكرة قد تزيف الحقائق دون وعي، كما يقول د. عثمان الزياني، وهناك التماهي مع خيارات السلطة وكتابة ما يرضي السلطة واستخدام اللغة والمصطلحات الرسمية للسلطة، وكتابة ما ترضى السلطة عنه وحذف ما لا يناسبها. لهذا أكثر الكتب تتحدث بلغة الإعلام الرسمي وتستخدم لغة الخطاب الرسمي كأنها جميعا كتبت بقلم واحد.

ويشير الدكتور الزناتي إلى الذاكرة المؤدلجة، التي ُرسم لهم حدود التذكر ما يقال وما يتم التغاضي عنه وما يتم محوه تماما وعدم الإشارة إليه، وتشويه التاريخ يتم من قبل إيديولوجية السلطة المبني على الترغيب والترهيب، ذاكرة خاضعة للتلاعب والمساومة في آن واحد، ومن خلال التستر على الحقائق والقضايا المحورية في التاريخ السياسي.

يضطر الشخص أن يمارس نوع من الرقابة الذاتية حتى لا تتم عملية إفشاء الأسرار، ولا تبقى أمامنا سوى أنا نرجسية لصاحب المذكرات الذي يرسم صورة بطل سياسي عصامي صنع التاريخ.

لهذا فالمذكرات السياسية لا يمكن أن تخرج عن إطار الهيمنة والتحكم كما يقول د. الزناتي مما يكون معه الكاتب مجبر على ركوب منطق بلاغة التضليل والتعميم والتورية والتسويغ ولغة الخشب.

السياسي لا يمتلك القدرة على الاعتراف حتى لو كانت الحقيقة ساطعة وظاهرة للعيان ومنكشفة ولا تحتاج أي تبرير أو تسويغ.

ويصدمنا الدكتور الزناتي بحقيقة قاسية: إن القارئ الذي يتخيل أن المذكرات ستكون موضوعية، عادلة، أو حتى دقيقة بدرجة كبيرة هو ساذج بالطبع، فالمذكرات السياسية هي قصيرة النظر والرؤية وذات طابع ذاتي وحزبي ضيق في الغالب، وعلى الرغم من هذا التحذير، فإنها دائما ما تكون مصدر للمعلومات السياسية التاريخية، وتفتح الباب أمام نقاشات حقيقية بين مشكك في مصداقيتها وداعم ومساند لها، إلا أنه وجب تصحيح مضامينها ودعم مسارها وتقويم اعوجاجها بالشكل الذي يجعلها شاهدا حقيقيا على العصر في سياق التاريخ السياسي.

في الأخير:

قرأت الجزء الأول من المذكرات التي حاول الشيخ سنان أن يسجل فيها دقائق ويوميات للأحداث التي عاصرها، وما رافق الحركة الوطنية قبل الثورة اليمنية من خلافات عميقة بين أفرادها. كانت هناك إشارات لتلك الخلافات دون ذكر طبيعتها، عدا إشارة سريعة لأحد الخلافات: " كنت في البيت متعبا فزارني قاسم غالب وتحدثنا معه كثيرا، وكان عائدا من القاهرة وأثنى على البيضاني وقال أننا غيرنا الفكرة إلى القحطانية والهاشمية، لأنها كانت مفيدة فقد انتهت النعرة بين الشافعية والزيدية وهو كان من دعاة ذلك".

ويبدو واضحا أن رواد الحركة الوطنية من مثقفين ومشائخ وغيرهم لم يحملوا مشروعا وطنيا جامعا توافقوا جميعهم عليه، فرؤاهم كانت ضبابية ومتناقضة وجمعهم فقط فكرة التخلص من الإمام واسرته، وحتى هذا الهدف اختلفوا كيف يتم تحقيقه.

لم تعجبني المقدمات المملة والممجوجة، للكتاب، والتي لا تخرج عن نطاق التزلف والتملق لكاتب المذكرات. ولم يعجبني أن عدد من الأشخاص عدلوا وحددوا ما يكتب الشيخ وما لا يكتب، وفكرة أن الشيخ رضخ ووافقهم على ذلك وحرمنا من كتاب يستحق القراءة كما كان يريد. وخرج الكتاب بعد التنقيح والتمحيص بصورة لا تطابق ما أراده من أن يكون كتابة شهادة صادقة على التاريخ وما حدث دون ميل أو تدخل.


 

تعليقات

  1. سلام عليكم اخت احلام رايت تعليقك على كتاب الدكتور محمد الظاهري
    الدور السياسي للقبيلة في اليمن
    اختي الكريمه انا ابحث عن هذا الكتاب ولم اجدة على صيغة pdf فاذا هذا الكتاب متوفر عندك ارجوك ارسالة لي عبر الايميل
    tayalamry2003@yahoo.com
    او عبر الوتس
    0031687752426

    واذا كان لك اتصال مع الدكتور محمد فارجوك ايصالي به للضروره
    مع الشكر مقدما
    طارق العمري

    ردحذف
    الردود
    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      أنا قرأت كتاب الدكتور الظاهري نسخة ورقية حصلت عليها من موقع نيل وفرات.
      وهناك ورقة بحثية تحمل عنوان: الدور السياسي للقبائل في اليمن -الصراع في جنوب اليمن كدراسة حالة . لأحمد أبو زيد.
      وجدتها على الأنترنت على موقع Research gate
      متوفرة للقراءة أونلاين أو للتحميل نسخة pdf
      https://www.researchgate.net/publication/319112697_aldwr_alsyasy_llqbayl_fy_alymn_aldwr_alsyasy_llqbylt_fy_alymn_The_Political_Role_of_Tribes_in_Yemen

      بالنسبة للدكتور الظاهري لا أعرفه بشكل شخصي ولا أتواصل معه لكن أعرف بنت أخته وبعثت لها رسالة اطلب رقم الدكتور أو ايميله فإذا ردت سأعطيك الرقم بإذن الله
      لك مني أطيب تحية
      أحلام جحاف

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فيلم Alpha

الصمت عار

الكرد في اليمن، دراسة في تاريخهم السياسي والحضاري 1173 - 1454م لدلير فرحان إسمايل