لسْتِ سوى امرأة
"لستِ سوى امرأة" عنوان كتاب الجلسة الرابعة من جلسات "مسيرة كتاب" التي تنظّمها مجموعة "سياق"، والتي حدّثتكم سابقاً عن أوّل جلستين لها... يحتضن بيت الحكمة في الشارقة هذه الجلسات الثقافيّة المميّزة، ويقدّمها مختصّ المكتبات فيه الأستاذ هاني صبري، لذلك لا عجب أن تكون هذه الجلسة جلسة ثقافيّة أدبيّة راقية، بدأ الحوار فيها بمقدّمة جميلة مميّزة أبدع فيها الأستاذ هاني بتقديم الكتاب وكاتبته وفحواه، ثمّ انتقل إلى بعض الأسئلة عن الكتاب وعن الكتابة بشكل عامّ لينتقل الحوار بعد ذلك إلى مناقشة الكثير من الهموم والآلام والأمال في مجتمعاتنا العربيّة، حوار غنيّ ثريّ هادف مفيد شارك به كلّ من حضر الجلسة بطريقة وديّة محبّبة...
أعود إلى الحديث عن الكتاب "لستٍ سوى امرأة"، فهو مجموعة قصصيّة تتألّف من ثلاث وعشرين قصّة قصيرة اسمحوا لي أوّلاً أن أعرّفكم بالكاتبة ثمّ أنتقل للحديث عن الكتاب...
الأستاذة أحلام جحاف مدرّسة وكاتبة من اليمن الشقيق، لها رواية بعنوان "إضرام النيران"، وقصّة للأطفال بعنوان "الخاتم العجيب"، إذن هي كاتبة كتبت أكثر من نوع أدبيّ لكنّها تشترك كلّها في أنّها تتحدّث عن هموم مجتمعها وآلامه لعلّها تكون صوت من لا صوت له... ما أراها إلّا قد طبّقت المقولة التي أردّدها دائماً لأديبتنا الكبيرة كوليت الخوري: "لا أُحبّ الصراخ بحنجرتي، فصرخت بأصابعي وأصبحتُ كاتبة"... لكنّ صرخة الأستاذة أحلام هي صرخة هامسة أو همسة صارخة، لا فرق، فهي صرخة وعي واتّزان، صرخة في وجه الفساد والتخلّف والجهل والعادات والخرافات والموروثات البالية، نُسجت بشكل قصص من واقع حياتنا اليوميّ حتّى إنّ من يقرأ هذه المجموعة يقول لنفسه مع كلّ قصّة "هذه تشبه قصّة فلانة"...
تنتقد الأستاذة أحلام في قصصها الواقعيّة العديد من الممارسات الخاطئة التي بليت بها مجتمعاتنا فأدّت إلى تخلّفها وتأخرّها عن ركب الحضارة والتقدّم، فهي مثلاً تتحدّث عن التمسّك بعادات بالية لا صحّة لها سوى أنّها موروثة عن الأجداد كما في قصّة بقرة الليل التي يخيفون بها الصغار، والزنيحيّة التي تسرق حليب الأمّ إن خلدت للنوم، وغصن الشذاب الذي ينبغي على الوالدة حديثاً أن تضعه... هذه كلّها عادات يمنيّة لزمتها النساء دون تفكير، لكنّكم ستجدون بالتأكيد عادات تماثلها في كلّ البلدان العربيّة، وإن تجرّأت إحدى النساء وسألت عن جدواها، كما فعلت بطلات القصص هنا، كان الجواب "هذا شيء لا بدّ منه، هو هكذا وحسب"...
زواج القاصرات كان من الأمور السلبيّة التي انتقدتها الأستاذة أحلام من خلال الطفلة "نورية" التي خسرت حياتها في ريعان الشباب بعد أن زُوّجت في التاسعة من عمرها، فالمرأة ما زالت لا رأي لها ولا قيمة، بل وتتّهم بالغدر أيضاً كما جاء في قصّتها "داوية وهدار"، وفي قصّة "لستِ سوى امرأة"، التي منحت اسمها للمجموعة كاملة، تتحدّث عن الانتقاص من شأن المرأة وحصر دورها في الحياة في البيت فقط، إذ تقول على لسان أحدهم بعد أن رأى بطلة القصّة تقود سيّارتها: "تركت التنّور وخرجت تزاحم الناس"...
أمّا علاقة الحماة بالكنّة فأفردت لها قصّة محزنة بعنوان: "القرقوش في الطاقة"، إذ يبدو أنّ العلاقة المتوّترة دائماً بين الحماة والكنّة أمر يغلب على معظم مجتمعاتنا، ويؤكّد ذلك المثل الشاميّ القائل: "مكتوب على باب الجنّة، الحماية ما بتحبّ الكنّة"... بطلة القصّة عانت من تعسّف حماتها ووقوف الزوج دائماً إلى جانب أمّه، فقالت: "الزواج برجل له والدة مزعجة كوالدة زوجي هو نوع من الدخول إلى أعماق الجحيم"... ثمّ تساءلت: "ولا أدري لماذا تحوّل إحداهن حياة ابنها وزوجته إلى جحيم مستمرّ؟ أين مشاعر الأمومة التي تحملها تجاه ابنها؟ لماذا تتعامل معي كأنني عدوّة لها؟"...
تناولت أيضاً العلاقة بين الزوجين بأشكالها المختلفة، فتارة يكون الزوج هو الطرف المخطئ والظالم كما في قصّة "مكالمة"، وطوراً تكون الزوجة هي المخطئة والظالمة، كما في قصّة "زوجة ثانية"، و"قصّة زواج" حيث يؤدّي إهمال الزوجة لبيتها وزوجها إلى هروبه ليجد الراحة الاستقرار في زواج ثانٍ...
تتساءل أحلام أيضاً في عنوان إحدى قصصها "من يدفع الثمن"؟، من يدفع ثمن علاقة بين زوجين غير متحابّين تنتهي بالطلاق، والجواب الأكيد هو: "الأطفال الفارّين من جحيم الأهل ليتلقّفهم الشارع بكلّ ما فيه من مخاطر وأهوال يرونها أهون بكثير ممّا هربوا منه"...
للفساد الإداريّ أيضاً نصيب في هذه المجموعة القصصيّة الجميلة، وذلك في ثلاث قصص: "توقيع الشيك"، و"حرم الوزير"، و"ضربوا المدير وأسعدوا الموظّفين"...
جوانب سيّئة أخرى تناولتها في قصص معبّرة مثل إدمان القات في قصّة "دردشة مع صديقة مخزّنة"، وظاهرة العظات الدينيّة التي اجتاحت مجالس العزاء، إذ "أصبح من المعتاد أن يكون هناك من تلقي موعظة عن الموت في بيوت العزاء"، ولكنّ هذه الموعظة قد تتحوّل إلى نقاش عقيم إذا كان هناك من يعارض رأي الواعظة ويخالف مذهبها الفقهيّ، وليس من النادر تبادل الاتّهامات ووصف الرأي الآخر بالبدعة...
رغم كلّ تلك الجوانب السيّئة والسلبيّات في مجتمعاتنا لم تتركنا الأستاذة أحلام دون شمعات تضيء لنا هذه العتمة، إذ كانت بعض القصص هي تلك الشمعات المضيئة، فها نحن نستعيد عادات رمضان الجميلة، ويغمرنا الحنين إلى زمن تولّى عشنا فيه أحلى لحظاتنا وذلك في قصّتها "وعاد رمضان"، لتنهي مجموعتها بقصّة مؤثّرة عن حبّ قلّ مثيله، حبّ لا يطلب من المحبوب إلّا يكون بخير، حبّ لا يشترط مبادلته بحبّ أو بمنفعة أو أيّ أمر آخر... حبّ صادق شفّاف يعيد ثقتنا بوجود قيم الخير والعطاء بغير حدود...
قلم الأستاذة أحلام كان أيضاً صادقاً وشفّافاً في نقل ما حملته على عاتقها من هموم مجتمعها وآلامه لعلّها تصل به إلى نبذ كلّ ما يعيق تقدّمه من أفكار متخلّفة وعادات بالية وموروثات لا صحّة لها... وكان ذكيّاً مبدعاً في طرحه، بسيطاً سلساً في سرده، هادئاً راقياً في نقاشه...
كم أسعدتني هذه الرحلة القصيرة إلى أرض اليمن السعيد على متن هذه المجموعة القصصيّة الجميلة، حيث تعرّفت على بعض عاداتها وأمثالها الشعبيّة بأسلوب شائق ممتع جذّاب!..
(شذى حريب)