الرواية التاريخية والطريق إلى التصالح مع الذات

 


الرواية التي تستند لأحداث تاريخية قد تدفعنا لإعادة التفكير في تاريخنا وربما تكون سببًا لحدوث نوع من التصالح مع تاريخنا وشخوصه.

نلتقي عادة مرة في الشهر لمناقشة إحدى الروايات مع مجموعة للقراءة. من الروايات التي نهتم بمناقشتها على سبيل المثال تلك التي تصل لقوائم الجوائز العربية. ومن تلك المرات كان نقاش رواية “آخر أيام الباشا”، الرواية التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر للعام 2020 للمؤلفة رشا عدلي.

الرواية تتحدث عن شخصية الباشا محمد علي بشكل إيجابي. تقول المؤلفة التي التقينا بها عبر منصة زوم الإلكترونية: “كتب التاريخ في المدرسة تذكر الباشا بشكل سلبي وتكيل له مجموعة من التهم، فتنتج جيلًا يشعر بالنفور من هذه الشخصية التاريخية فتصوره بأنه غير عربي يكره الناس ويحتقرهم وأنه تعامل مع الناس بقسوة وفرض قوانين قاسية وتتناسى كل إيجابياته ومحاولته للنهوض بالبلاد”. تلك وجهة نظر المؤلفة قد تكون محقة وقد تكون مخطئة، ولكنها وجهة نظر تستحق الوقوف عندها…

التصالح مع التاريخ

كلام الروائية رشا عدلي عن روايتها التي تتحدث عن شخصية تاريخية مثل الباشا دفعتني للتفكير في علاقتنا بالشخصيات التاريخية وخاصة ذلك الجزء من التاريخ الذي نتعلمه في حصة التاريخ في المدرسة، وخطر على بالي ما حدث من فترة عندما دخلت في أحد الأيام مطعمًا في القاهرة لا أتذكر اسمه، لفت انتباهي ديكوراته واللوحات الفنية المعلقة على الجدران، والتي تمثل فترة زمنية من تاريخ مصر، وتحديدًا فترة حكم الملك فاروق، قبل قيام ثورة 1952م.

ظللت أتأمل تلك الصور للملك مع زوجته في مناسبات مختلفة وصور أخرى للفنانين في تلك الفترة وشخصيات مشهورة أخرى في ذلك الزمان. ديكور المطعم كان ينتمي لتلك الفترة بكل ما فيه من تفصيلات جميلة، حتى الموسيقى والأغاني الخفيفة التي تناهت إلى أسماعنا أخذتنا لذلك الزمن.

سرحت بذهني قليلا وتخيلت لو أن شخصًا ما فكر في فتح مطعم يحمل هذه الفكرة في صنعاء لفترة ما قبل الستينات، قبل ثورة 1962، ووضع صور لليمن تعبر عن شخصيات وأحداث تنتمي لتلك الفترة، وتخيلت رد فعل من سيدخل المطعم، وهالني ما جال بخاطري، خاصة عندما أتذكر عملية طمس التاريخ التي تمت والتي لا تزال تتم، هدمًا للآثار وطمسًا للمعالم. بشكل يثير سؤالًا: ما هي مشكلتنا مع التاريخ؟

نحن نعاني من مشكلة مع تاريخنا، هناك شخصيات تاريخية نكن لها مشاعر الحب لدرجة التقديس، ولا نقبل أن يقترب منها أحد بأي نقد أو محاولة لرؤية الشخصية من أي زاوية أخرى، وهناك شخصيات وضعت في المنطقة السلبية ونكيل لها كل التهم ونرفض أي قراءة تصور أو أن ننسب أي شيء إيجابي لها مهما كانت الأدلة قوية على صحتها.

نعم لدينا مشكلة مع تاريخنا

عندما نقرأ التاريخ نقفز لمحاربة شخوصه ونريد بكل قوة محاربة تلك الشخصيات ومحوها، ننسى حقيقة أننا عندما نقرأ التاريخ نحن لا نحاكم شخصياته، هذا لا يحق لنا، وليس بمقدورنا، نحن نقرأ ما حدث ونتفاعل معه عن طريق معرفة لماذا حدث؟

نعم، محاولة لفهم ما حدث، هذه المحاولات للمعرفة تشبه إلى حد ما ماجاء في  القرآن الذي أشار للتاريخ وما حدث في الأزمان الماضية، للعبرة ولزيادة المعرفة بأحوال البشر والتعلم من تلك الأحداث. وقراءة التاريخ تهدف لمعرفة ما حدث وكيف حدث، محاولة للتفكير بطريقة تلك الشخصيات بثقافة عصرها، ومعطياتها التاريخية، وخلفياتها العلمية، وهذا حق للأجيال الحاضرة والقادمة. الحق في معرفة التاريخ بكل ما فيه سلبًا أو إيجابًا.

الرواية والتاريخ

ولكن هل هناك فرق بين كتاب تاريخي ورواية تاريخية؟

جرى الاتفاق على أنّ الرواية التاريخيّة عمل فنيّ يتّخذ من التاريخ مادة للسرد، ولكن دون النقل الحرفيّ له؛ حيث تحمل الرواية تصوّر الكاتب عن المرحلة التاريخيّة وتوظيفه لهذا التصوّر في التعبير عن المجتمع أو الإنسان في ذلك العصر، أو التعبير عن المجتمع في العصر الذي يعيشه الروائي، ولكنه يتخّذ من التاريخ ذريعة وشكلًا مغايرًا للحكي. فنحن عندما نقرأ رواية تتحدث عن زمن ما ترسم لنا الأحداث وحوار الشخصيات جزء من طبيعة ذلك الزمن وثقافته وملامحه.

في الرواية التاريخية يمتزج التاريخ بشيء من الخيال، فأحداث الرواية تتم في عصر محدد، ولكن يتم سرد تلك الأحداث بأسلوب روائي مشوق، يشد القارئ. فهي سرد قصصي يدور حول أحداث تاريخية حدثت بالفعل كما تذكرها المصادر التاريخية، يعيد الكاتب إحياء تلك الأحداث لهدف معين.

المؤلف يمتلك الحرية في اختراع شخصيات تعيش في ذلك العصر لكن الروائي يتقيد في سرده بنقل الأحداث كما هي، هو يهتم كثيرًا بنقل البعد الإنساني للشخصيات سواء الحقيقية أو تلك الخيالية التي وضعها المؤلف ليرينا كيف أثرت تلك الأحداث على حياة الناس ومشاعرهم.

المؤرخ يتقيد بنقل الأحداث التاريخية التي حدثت بالفعل كما تقول المصادر المروية أو المكتوبة، والوثائق، والحفريات، وغيرها، لكن الروائي يعيد إحياء تلك الأحداث. وتختلف وجهات النظر حول التاريخ فهناك من يعتقد أن التاريخ ينقل وجهة نظر واحدة، هي وجهة نظر المنتصر، فماذا عن وجهة نظر الطرف الآخر، والذي يجد الروائي هنا مساحة كبيرة لينقل لنا ذلك.

ولأن الإنسان يحب الحكي وسرد القصص، فكتب التاريخ تعيد بناء الماضي بالبحث والتوثيق وذكر المصادر. والروائي يهتم ببناء العالم الإنساني، عالم العلاقات والمشاعر والحياة اليومية للناس باستلهام الوقائع التاريخية وكيف أثر كل حدث على حياة الناس سلبًا أو إيجابًا.

يخلع الروائي شيئًا من ذاته وخبرته وخياله فيحرك الشخصيات ويصف عذاباتها وأفراحها، تلك الحكايات لا نجدها في كتب التاريخ التي تهتم بالأحداث وشخصيات القادة والملوك والحكام، وتهمل عامة الناس وتتحدث عنهم لِمامًا. لكن مهما بلغت درجة الخيال عند الروائي فهذا لا يعطيه الحق أن يزيف وقائع تاريخية إلا إذا أقنع القارئ مثلًا بذلك ليسبح معه القارئ ويستمتع بخيال ممتع وهو شيء يختلف كلية عن تزييف التاريخ.

وهناك من لا يعجبه تصنيف الرواية التاريخية لأن كل رواية تحمل جزءًا من التاريخ في بنائها كما يقول الكاتب المصري ناصر عراق. وهناك من يهرب من رقابة السلطات فينتقدها عبر فضح ممارسات مشابهه حدثت في الماضي. الروائي يقرأ كثيرًا عن الفترة التاريخية التي ستدور أحداث روايته فيها، فيعرف الكثير من مفردات ومصطلحات الحياة اليومية ونوع الملابس السائدة والثقافة والعملة النقدية والعادات الاجتماعية والأمثال الشعبية السائدة إن أمكن، وكلما عرف أكثر كانت روايته أكثر اقناعًا وجذبًا للقارئ.

فهل نستطيع القول إن الرواية التي تستند لأحداث تاريخية قد تدفعنا لإعادة التفكير في تاريخنا وربما تكون سببًا لحدوث نوع من التصالح مع تاريخنا وشخوصه.

 

https://ziid.net/art-intertainment/the-historical-novel-and-the-path-to-self-reconciliation/ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصمت عار

فيلم Alpha

الكرد في اليمن، دراسة في تاريخهم السياسي والحضاري 1173 - 1454م لدلير فرحان إسمايل