قراءة لرواية شرخ الماء لعبد الرحمن الخضر

 

يقول الكاتب البرازيلي جورج أمادو: ” أكتب لكي يقرأني الآخرون، ولكي أؤثر فيهم، ومن ثمة استطيع المشاركة في تغيير واقع بلادي وحمل راية الأمل والكفاح”.

تذكرت هذا وأنا اقرأ رواية “شرخ الماء”. فالرواية تستطيع أن تكون صورة دقيقة للمجتمع، والكاتب المبدع هو من يحقق ذلك. فيقول لنا عن واقعنا وعن واقعه هو كل شيء بشكل أدبي، فنحن نحتاج أن نعرف عن أنفسنا وواقعنا الذي يخفى منه عنا الكثير، ولأننا نفقد ثقتنا بالأخبار الرسمية يصبح الأدب هو المصدر. الأدب الواقعي هو الذي يمنحنا تلك المتعة ونحن نقرأ واقعنا من خلال العمل الأدبي، فيدفعنا لنقرأ ما بين السطور من تحليلات وتأويلات دسها الكاتب بذكاء ونحن نبحر في سماء الرواية.

وكما يقول صبحي فحماوي: ” الدراما في الرواية تشدك بخيط سحري…الرواية تفرش الأرض القفراء خضرة وينابيع وغابات، وهي التي تجعل للحياة طعما، ولهذا نكتب الرواية”.

 

كما خطر ببالي ما قاله أرنست هيمنجواي صاحب رواية وداعا للسلاح: ” في جميع قصصي أحاول نقل نبض الحياة الواقعية، ولا أكتفي بوصفها، أو انتقادها، ولكنني أقوم بنقلها إلى الورق، بحيث يشعر القارئ بعد الانتهاء من قراءة قصتي أنه قد عاشها بنفسه بالفعل”. ويقول أيضا:” الكتاب الخياليون ليسوا سوى غشاشين فوق العادة، الذين يستطيعون، إن كانوا يعرفون كثيرا، وكانوا منضبطين في الوقت نفسه أن يكتبوا بحيث تكتسب تخيلاتهم مصداقية أكثر من الحقائق المؤكدة”… لا يخلو عمل أدبي لأدباء أمريكا اللاتينية من سرد الأحداث التاريخية والسياسية التي تشكل جزء مهما من بنية الأدب لأمريكا اللاتينية، حيث يرى الكاتب هناك أنه يلعب دور يُسهم في التعريف بأمريكا اللاتينية وبقضاياها. في أدب أمريكا اللاتينية السياسة شكلت جزء من البنية الروائية ذاتها، دون أن تتحول الرواية إلى بيان سياسي، أو خطابي خال من الملامح الفنية. نلاحظ في رواية حفلة التيس على سبيل المثال الكاتب يستلهم ملامح المكان والإنسان، وكيف تعمل الرواية على عرض المعاناة ونقد الأوضاع وفضح الممارسات.

 

في رواية شرخ الماء، عندما نبدأ بالعنوان نجد أننا أمام شرخ! فهل هو شرخ نفسي، أم شرخ في الذاكرة، بل قد يكون شرخ عميق بين الحلم بالتغيير والواقع الذي نعيشه. شرخ للماء، فهو إذا شرخ لا ترصده العيون مهما كان مخيفا أو مرعبا.

يتنوع صوت السرد في الرواية، وتتغير الأزمنة بين الماضي والحاضر. ونرى الراوي الكاتب يظهر لنا من خلال سطور الرواية ويختفي ليعطي الفرصة لشخصيات الرواية.

الشخصيات في الرواية والأماكن حقيقية، حتى لو حمل بعضهم أسماء مختلفة، والأحداث من صميم الواقع فلا خيال هنا. واقع أكثر غرابة من أي خيال أو فنتازيا بالنسبة لمن لا يعيش هنا.

 

ماذا حدث بعد الثورة التي جاءت لتحرر الإنسان، فها هي تعذب الناس بذات الأدوات، بل زادت عليها بأساليب أكثر امتهانا للكرامة ومحوا للشخصية: ” حين استعاد وعيه أحس بقدميه ثقيلتين ولم يتمكن من تحريكهما، وسمع قلقلة، كان ممدا على بسطة الإسمنت في زنزانته الانفرادية، وقدماه مطوقتان بقيد من الحديد المرود الذي كان يطوقون به أقدام الثوار في معتقلات الإمام”.

يضع الجواب لذلك السؤال: أين ذهبت النخب الثقافية؟ أين بصمات من تعلموا في المجتمع الذي تحرر من العزلة عن العالم وشق الطريق بقوة نحو العلم والخروج من العزلة؟ هل سقط كل من حلم بالتغيير في ذلك الشرخ الذي مس جسد الوطن؟

الفنتازيا في أبهى صورها، تلك الأحداث الواقعية التي تصفع أي خيال، الراوي لا يصف مشاعر الناس وصدمتهم وخوفهم وما حدث لألسنتهم، اعتقلت الألسنة فعاش المواطن معتقل تحت التعذيب في الوطن الذي حلم بتغييره، ومواطن آخر فضل أن يقوم بنفسه بكف لسانه وحبس كلماته وأعمى عينيه ليعيش بسلام. إنه ذلك الشرخ المخيف والخادع الذي لم تتخيل وجوده، فيبتلعك ويبتلع أحلامك.

لا مكان للحب في هذا المجتمع، لا مكان للحياة النزيهة…

 

ترسم الرواية ملامح المجتمع بتناقضاته، في لوحة تتنافر فيها الألوان: حيث مشاعر الحب والشوق، والغدر، وسطوة القوة والتسلط وقهر الآخر. لوحة ترصد الشرخ غير المرئي الذي أفسد الحياة في هذا البلد. مدرسة ومستشفى يُبنيان، وهناك معتقل وزبانية وتعذيب، فساد وقهر ومواطن يعيش مكشوف في العراء لم تتغير حياته.

رصد لأحداث كبيرة وصراعات لا تلتفت لمعاناة المواطن واحتياجاته. ” ليكتشف أخيرا ذلك التماهي الجاري بين العسكر والقبيلة وتنظيم الإخوان المسلمون الذي طغى وسيطر على التوجهات الأخرى التي افترض أن المؤتمر قد تبناها في مرحلة التأسيس”.

 

المقال على منصة مرداد 

 


 

رواية «كحل وحبهان»: سيمفونية تستدعي الذكريات

 

استوقفتني صورة غلاف رواية «كحل وحبهان» للكاتب المصري «عمر طاهر»، حاولت أن أتذكر من صاحبة صورة الغلاف، الوجه مألوف لممثلة مصرية شهيرة غاب اسمها عن بالي. فشغلني ذلك عن القراءة، وبدأت بالبحث عن اسمها. أخيرًا عرفتها، الصورة للراحلة الممثلة «مديحة كامل».

ولكن ما علاقتها بالرواية؟

سألت نفسي هل صورة الغلاف تستحق كل هذا الاهتمام؟ صورة الغلاف أول ما تقع عليه عينا القارئ. فلماذا مديحة كامل تحتل صورة الغلاف؟

لكن القارئ سيعرف هذا وهو يقرأ الرواية.

وأنا أبحث بدافع الفضول عن صاحبة الصورة على غلاف الرواية، عثرت على مقال ينتقد الرواية بشدة ويقول إنها لا تُصنَّف رواية، فهي بحسب رأيه تفتقد للحبكة الدرامية، ويُشكِّك في نزاهة لجان الجوائز الأدبية بسبب وصول هذه الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة بحجم «جائزة نجيب محفوظ».

وبعيدًا عن ذلك الجدل بدأت مغامرة قراءة الرواية، لأجدها ممتعة من الصفحة الأولى.

اللغة

الكاتب يمتلك لغة جميلة، شعرية رائعة تصف الأشياء بدقة وجمال.

صمت مُربِك تهشم بقسوة بعد دقائق إثر صوت صرخة أم سمير.
الجوع فراغ، وكل فراغ مؤلم. كان ألم أم سيدنا موسى أن فؤادها أصبح فارغًا. فراغ المعدة، القلب والبيت والوجدان والطريق والجيب، كل فراغ يؤلم صاحبه، ما عدا فراغ العقل؛ فهو يجلب له النعيم.

رغم بساطة القصة وأحداثها لكنها تلامس مشاعر القارئ بعمق. تتناول كثير من المواضيع الحساسة والمسكوت عنها في المجتمع بطريقة لطيفة، كأن الكاتب يُنبِّه لشيء ما غير صحيح. فهو يرصد مظاهر التعصب الديني في المجتمع وثقافة التمييز ضد الآخر، يتضح ذلك من وصف بطل الرواية لمعالم المدينة التي عاش بها طفولته:

مسجدان كبيران لكل واحد منهما شلة مصلين، كنيسة كبيرة يصيبنا توجس ما كأطفال مسلمين ونحن نعبر إلى جوارها، وعلّمونا أن نقرأ ساعتها الفاتحة بصوت عال.

وعلى بعد صفحات نراه يمر سريعًا بطريقة ذكية على موضوع حساس، التحرش الجنسي بالأطفال، وهو يتذكر الروائح وما تحمله من ذكريات، فلكل ذكرى رائحة تميزها وتستحضر صورتها، ليصل إلى:

رائحة البيوت المهجورة هي رائحة معمل كيمياء المدرسة الابتدائية، عندما أمسك المدرس يدي ومرّرها فوق انتصاب عارم.

لا يذكر الكاتب تفاصيل ذلك التحرش، لكنه يترك خيال القارئ الذي سيشعر بالصدمة ويقف لتخيل تلك اللحظات لطفل في الابتدائية ومدرس سيئ الأخلاق يستغل مكانته ومهنته مع طفل بريء، ويترك جرح في نفسية الطفل تتحول لذكرى لها رائحة لا تُمحَى.

الرائحة تلعب دورًا كبيرًا في الرواية ويتفنن بطل الرواية في عزف سيمفونية الطبخ ورائحة الطعام ورشاقة الطبيخ. الطبيخ فن له قواعد ومعايير وطقوس ساحرة. بل طقوس مُقدسة لتلك الطبخات الناجحة:

طبيخ تأدية الواجب لا شخصية له، صاحبات النفس هن صاحبات أرواح عظيمة محبة ومخلصة.

وقد تحوّل من الحديث عن الطعام إلى الحديث عن فلسفة الطعام: الصداقة، العلاقات الاجتماعية، الحب، وكثير من المشاعر نشعر بها من خلال رائحة الطعام ومكوناته. بل إنها تقوم بمهمة تحليل شخصيات تاريخية وسياسية:

كنا نفكر في تحليل لرائحة محمد علي باشا، وخطر لنا سؤال: كيف هي رائحة المشاهير الذين لم نلتقهم يومًا؟ قلت لخالي: فلتبدأ.
قال: جمال عبد الناصر.
بعدها انفتح باب اللعبة ولم ينغلق.

تُذكِّرني الرواية برواية «البحث عن الزمن المفقود» لـ«مارسيل بروست»، تلك الرواية الطويلة المكوّنة من سبعة أجزاء، والتي تُغرِق القارئ في تفصيلات دقيقة، عندما يصف الراوي- عبر صفحات طويلة- لوحات فنية ومنحوتات، ويُغرِق القارئ في ذكريات يستعيدها الراوي وهو يستمع لجمل موسيقية، فتعج الرواية بأسماء موسيقيين ونحّاتين وأدباء. وكأن الكاتب يُمسِك بريشة فينحت تلك الذكريات، وعمر طاهر هنا يُحوِّل الطعام لسيمفونية تستدعي الذكريات.

الحبكة

ينقلنا المؤلف بين زمنين، طفولة الراوي عبر يوميات، وأحداث من فترة شبابه من عام 2008 حتى 2017.

ينقلنا من حكاية إلى حكاية بتعبيرات رشيقة، وأوصاف جميلة تمتلك عمقًا كبيرًا، تُلامِس مشاعر وعواطف القارئ فيشعر في لحظات أنه يقرأ جزءًا من سيرته الذاتية في طفولته. فالكاتب يتفنّن بذكر يوميات يلوّنها بالأغاني السائدة في ذلك الزمن في السبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.

فرحة الراوي بشراء التلفزيون المُلوَّن، وجهاز الراديو الذي يستمع منه لأشهر الأغنيات، والتلفون الذي دخل لشقتهم أولًا بسلك طويل ليخدم بقية الجيران.

عبر صفحات الرواية وتفاصيلها يشعر القارئ بالحنين لذلك الزمن الجميل «النوستالجيا» زمن مديحة كامل، وفايزة أحمد، ومحمد منير. زمن أغاني الكاسيت. ويسمع الأم وهي تردد مع الراديو في المطبخ كلمات لأغنية:

يمكن على باله حبيبي
يمكن على باله أغيب
لكن والله يا حبيبي عن بالي ما بتغيب.

ليس للطبيخ وعادات الأكل طقوس وحسب، بل الحزن له طقوس وممارسات. وفاة قريب لإحدى الجارات يُغيِّر حياة الراوي. وتظهر قائمة الممنوعات مراعاة لحزن الجارة حتى فيما يخص نوع الطعام.

الانتقال بين يوميات الراوي في طفولته وأحداث يومه في فترة الشباب تتم بسلاسة، ويتقبلها القارئ بشغف من دون الشعور بالغرابة.

كان أبي جائعًا، وأنا أيضًا، لكن رعشة خفيفة سرت في جسدي عندما ابتسم أبي بعد أول لقمة جعلتني أنسى الجوع، هذا الطفل اليتيم يبدو سعيدًا، وأنا الآن أتشمم رائحة استمتاعه. قال شيئًا لم أسمعه جيدًا، كنت مشغولًا بالتدقيق فيما أشعر به الآن، فبعيدًا عن كل أهل المنزل كنّا نجلس أنا وهذا الرجل وحدنا نوقع معًا ميثاق العيش والملح.

تنتهي أحداث الرواية قبل أن يصل القارئ لمرحلة الشبع والتخمة.

الحب الأول في أيام الطفولة ورسائل الغرام البريئة، والحب الناضج في مرحلة النضج والشباب.

تُقدِّم الرواية شخصياتها بطريقة هادئة: الراوي، ووالدته التي تُتقِن الطبيخ، وجدته المُحبة، والده الحازم، الخال. شخصيات واضحة ومألوفة للقارئ، يتقبلها بترحاب وكأنه يعيش معها ويعرفها منذ زمن، ويرى شبهًا كبيرًا بينها وبين عائلته وجيرانه وأناس عرفهم في طفولته.

لم أتردد في وضع تقييم عال للرواية، بغض النظر عن رأي من ينتقدها، ليقيني أن هناك منْ يحرمون أنفسهم من متعة الاستمتاع بكثير من الأعمال الإبداعية، عندما يُقيِّدون ذائقتهم بقواعد تتجاوزها بعض الأعمال الأدبية.

 

(المقال نُشر على موقع إضاءات:

https://www.ida2at.com/kohl-and-habhan-symphony-that-recalls-memories/ 

 


 

كناب : فن اللامبالاة

 

ينشر محمد صلاح صورةً له وهو يقرأ كتاب “فن اللامبالاة” ويرسل له مارك مانسون رسالة شكر. ترتفع مبيعات الكتاب، فهل حدث ذلك صدفة؟

الكتاب يحتوي 269 صفحة، في المكتبة معروض تحت لوحة الكتب الأعلى مبيعًا. عادةً كتب تطوير الذات لا تثير اهتمامي كثيرًا، لكنني أشارك مع مجموعةٍ للقراءة وكان هذا الكتاب هو كتاب الشهر، علي أن أقتنيه وأقرأه بتمعن من أجل جلسة النقاش الشهرية.

مؤلف الكتاب

مارك مانسون من مواليد 1984م، بدأ مدونته عام 2009م كقناةٍ تسويقية لأعماله في مجال الاستشارات للمواعدة dating advice business ، إذن هو خبير في أعمال التسويق والترويج.

التسويق للكتاب

في كتابه يخبرنا مارك أن كتابه مختلف عن كتب تطوير الذات، فيقول: “ليس الكل استثنائي” فهل هي دعوة لليأس والقبول بالواقع كما هو دون بذل أية محاولة لتحسين الأوضاع؟

ويوجه النقد لكتب تطوير الذات التي تحاول إقناع كل شخص أنه متميز ويملك قدرات يحتاج أن يكتشفها ويستغلها لصالحه. وهذه محاولة ذكية من المؤلف فهو يقنع القارئ بأن كتابه مختلف كلية، ولدية الجديد للقارئ الذي بدأ يفقد الثقة بكتب تنمية الذات التي باتت متشابهة وتحمل الأفكار ذاتها ولو اختلفت عناوين الكتب. فهل حقًا يقدم مارك شيئًا مختلفًا للقارئ؟

مسحوق اللامبالاة

يشرع المؤلف بذكر قصصٍ تاريخيةٍ مثل قصة بوذا التي أدخل عليها تفصيلات من خياله هو، حتى يقنع القارئ بوصفته السحرية الجديدة، اللامبالاة السحرية. وأكثر من ذلك يذكر قصة تجربة ملجرام في علم النفس ويبالغ في القول بأن لا أحد ممن خاضوا التجربة قد رفض ما يحدث، وهذا غير صحيح. كما أنه نسب مقولة: “المسؤولية الكبرى ترافق السلطة الكبرى” للعم بن في فيلم “سبايدرمان” بعد أن يذكر أنه لا يتذكر من هو الفيلسوف القائل للعبارة، وبالتالي لا يشعر بالحرج وهو يورد معلومة غير صحيحة أو لم يتأكد من صحتها. إذن المؤلف ليس دقيقًا بقصصه التي يختارها لتدعم وتعزز أفكاره.

هل هو فعلًا كتاب مختلف؟

الغريب أن الكاتب ينسى ما وجذه من انتقاد لكتب تنمية الذات، ويتحول الكتاب إلى كتاب من النوع نفسه، كتاب تطوير للذات.

في صفحة 262 من الكتاب يقول المؤلف:

“إنك شخص عظيم.. أنت عظيم حقًا سواء أدركت هذا أو لم تدركه، وسواء أدركه غيرك أو لم يدركه” وينسى أنه وجه النقد لكتب تطوير الذات وأنه يخاطب القارئ بالأسلوب نفسه الذي انتقده، وفي الكتاب الكثير من هذه العبارات. ويلاحظ القارئ بسهولة أن الكتاب مملوء بالحشو في كثير من فقراته، بسبب كثرة الوصف، وتكرار الأفكار ذاتها في فقرات متتالية.

بل أن الكاتب يدفع بالقارئ للشعور بالتشاؤم وهو يطلب منه عدم رفع سقف طموحاته، وأن يعيش يومه كما هو عليه لا كما يريد أن يكون!! ثم يتناقض مع نفسه ويدفع القارئ للأمل في سطور أخرى. الكاتب يستخدم أسلوب الخداع والاستدراج للقارئ، ويقدم له كتابًا سيئًا، بأفكار ضحلة، لكن حماسه لا يجعله يدرك ماكتب.

القيم والمبادئ

في صفحة 65 يتفاجئ القارئ بالعبارة التالية:

”لا بد من قدر كبير من الطاقة والجهد لكي تقنع نفسك بأن خراءك لا رائحة له، خاصة إذا كنت تمضي حياتك كلها في مرحاض” التشبيه في العبارة السابقة مقرف ومثير للغثيان، فهل حقًا لم يجد المؤلف غير هذا المثل ليقرب المعنى للقارئ؟

يذكر حكاية عن سيدة متقدمة في السن تصرخ على موظف المحاسبة وتوبخه لأنه لم يقبل كوبون شراء قيمته ثلاثون سنتًا… وتفسيره لغضب السيدة سيئ.. لماذا لا يقول أنها تحب العدل، والعدل يقتضي حصولها على مقابل لذلك الكوبون مهما كانت القيمة بسيطة، الأمر لا يستحق السخرية منها، وإلا لماذا المحل يصدر تلك الكوبونات، أنا في صفها وأتفهّم إحساسها بأنها تعرضت للاحتيال.. لم يوفق الكاتب في عرضه، وخانه التوفيق كما في أغلب حكاياته.

ولم يكن من المناسب أن يذكر تلك الحكاية عن الرائحة الكريهة الذي قال أنها تفوح من الأريكة التي سمح له صديقه أن ينام عليها بدل من أن يقدم عبارات الشكر لذلك الصديق الذي استضافه في بيته.

مشكلة الترجمة

بعض الكتب تلعب الترجمة دور سلبي فيها، خاصةً عندما يجتهد المترجم ويحدث تعديلات قد تغير من الحدث أحيانًا، وقد تغير المعنى في أحيانٍ أخرى. في هذا الكتاب يضع المترجم اسم فيلم الوطواط بدلًا من سبايدر مان مثلًا.

وفي صفحة 150 عندما يقول الكاتب:

“عندما كنت ولدًا صغيرًا كنت أظن أن “متواضع” نوع من الخضار لا أحب تناوله…” فهل متواضع ترجمة حرفية للكلمة أم اسم لشخصيةٍ إلكترونية؟ لم أفهم من هو متواضع هذا!!

مبررات غير منطقية

يذكر الكاتب قصة  “جيمي” فيضخم تلك الحكاية في محاولة لإقناع القارئ أن الإنسان عندما يشعر أنه مهم ويمتلك قدرات فلا محالة سيكون نسخة من “جيمي” وهذا كلام غير منطقي وغير علمي. كم هم أمثال جيمي هذا في المجتمع؟ وهل صحيح أن الناس يريدون أن يكونوا أثرياء دون عمل بسبب تقديرهم الزائد لذواتهم؟ مبررات الكاتب ليقنعنا بذلك لم تكن منطقية، ولا علمية.. ويشعر القارئ أن مايقوله الكاتب مجرد تضخيم ومبالغة وتحامل لا مبرر له.

ختامًا.. الكتاب ببساطة هو أحد كتب تطوير الذات، ومحاولة الكاتب أن يقنع القارئ أنه سيجد شيء مختلف في الكتاب لم تكن موفقة. لكنها أحدثت ضجة حول الكتاب دفعت القراء للبحث عما هو جديد في الكتاب.

كتب تطوير الذات ليست سيئة، فهناك بكل تأكيد من يحتاجها، ويجد فيها الكثير من النصائح والتوجيهات التي يحتاجها، خاصةً أن الفرد منا قد يواجه في مشوار حياته بعض الصعاب التي تسبب له فقدان ثقته بنفسه إلى حدٍ ما، فتكون هذه الكتب بمثابة الضوء الذي ينير له الطريق. 

لكن بعد فترةٍ من الوقت، وبعد قراءة عدد من هذه الكتب يصل المرء لحالةٍ من التشبع، ويشعر أنه لا يجد جديد فيها، فهي متشابهه إلى حدٍ ما. ويكون هو في حقيقة الأمر قد وضع أقدامه على الطريق الصحيح في مشوار النجاح والتوازن في حياته.

 


 

الجزء الرابع من رواية بحثا عن الزمن المفقود لمارسيل بروست: (سادوم وعامورة)

 العنوان يعطي ايحاء بالحديث عن الشذوذ الجنسي والمثلية، لارتباط العنوان بتلك القرى التي خسفها الله وحل بها العذاب الإلهي الذي جاء ذكره بشكل مباشر أو غير مباشر في الديانات الإبراهيمية الثلاث، لكن ذلك لن يكون هو المحور الرئيسي لهذا الجزء من الرواية كما يوحي لنا العنوان.

 

المثلية الجنسية:

يبدأ القسم الأول من الرواية بالاقتباس التالي: ” أول ظهور للرجال – النساء. هم من نسل الذين وفرتهم نار السماء من سكان سادوم.

” فللمرأة عامورة وللرجال سادوم” – (الفريد دو فينيي)

ولكن خلو الرواية من الحديث الصريح عن المثلية الجنسية، يدفعنا للتساؤل هل تم تهذيب مشاهد الرواية في الترجمة العربية أم أن هذا حدث في النص الأصلي؟

وربما يفسر هذا ما جاء في المقدمة العامة للرواية والتي كتبها جان إيف تادييه: ” وأخيرا يثبت الشذوذ الجنسي أنه أحد الطروحات الرئيسية في العمل الفني وسوف يصرح عنه بروست لجميع ناشريه المحتملين، فهو لا يستطيع أن يتصور رفض كتابه لأسباب أخرى غير التهتك”. فهل شعر بروست بالقلق لفكرة رفض نشر الرواية إذا كانت تمتلئ بوصف حالات وأفعال الشخصيات الشاذة ففضل أسلوب التلميح عوضا عن التصريح؟

ويلمح تادييه في هذه المقدمة بأن بروست في العام 1909 أرسل رسالة إلى فاليت: ” أن أحد الشخوص الرئيسيين شاذ جنسا”، كما يسطر إلى غاليمار: “هذه الشخصية مبددة إلى حد ما وسط أقسام مختلفة تماما كي لا يتفق لهذا المجلد شكل دراسة أحادية الموضوع خاصة…ولكننا على أية حال نرى هذا السيد العجوز يقنص بوابا وينفق على عازف بيانو…. إذا في الرواية نجد الثلاثي الذي يمثل الشذوذ شارلوس – جوبيان – موريل”

وسيرد الشذوذ الجنسي الأنثوي: ممثلا بشخصيات ألبرتين وأندرية وأبنة فانتوي وصديقتها.

 

يبدأ الفصل الأول باكتشاف الراوي لحقيقة شذوذ السيد دو شارلوس، يحدث ذلك وهو مختبئ يتابع تلقيح حشرة لنبتة فيشهد بمحض الصدفة العلاقة الشاذة بين دو شارلوس وجوبيان ويستعيد ذكرى قديمة من أيام طفولته لمشهد الآنسة فانتوي في علاقتها الشاذة مع صديقتها والتي شهدها بمحض الصدفة من نافذة بيته. ويربط عبر صفحات كثيرة بين العلم والعلاقات الشاذة المثلية للرجال والنساء والتلقيح للنباتات، وكأنه يحاول اقناع القارئ بأن تلك العلاقات هي علاقات موجودة في الطبيعة: ” فخلافا لما كنت أظنه في الباحة حيث رأيت جوبيان منذ قليل يحوم حول السيد دو شارلوس مثلما زهرة الأوركيد توجه دعوات للدبور، فإن هؤلاء الأشخاص الاستثنائيين الذين نرثي لحالهم يشكلون جمهورا”

 

ويذكرنا الراوي أن عدد الشواذ ليس قليل في المجتمع: ” ذلك لأن الملاكين اللذين أقيما على أبواب سادوم ليعلما، فيما يقول سفر التكوين، إن كان سكانها قد فعلوا بالكامل كل هذه الأشياء التي تعالت صرختها حتى الأبدي السرمدي قد جرى اختبارهما، ولا يسعنا إلا أن نبتهج لذلك، أسوأ اختيار على يد الرب الذي لعله ما كان انبغى أن يكل هذه المهمة إلا للوطي…”

” ولم أكن أبصرت حتى ذاك لأنني لم أدرك من قبل، أن الرذيلة (هكذا يقولون لتيسير الكلام)، رذيلة كل منا إنما ترافقه على غرار ذلك الجني الذي كان خفيا على الناس ما داموا يجهلون وجوده. إن الطيبة والمكر والاسم والعلاقات المجتمعية لا تكشف عن ذاتها والمرء يحملها مخبأة”

ويعود الراوي ليصور بشكل دقيق ومدهش مشاعر دو شارلوس الشاذ الذي حجب حبه لموريل عقله: ” فالحب يسبب هكذا اندفاعات بيولوجية حقيقية في الفكر”

” يظن الشاذ أنه من نوع وحيد في العالم، وفيما بعد فقط يتخيل – وهو غلو آخر – أن الاستثناء الوحيد هو الرجل الطبيعي”

 

السرد الطويل:

يجد القارئ أمامه جمل بروست المعتادة، الطويلة المتشابكة المتشعبة وكثير من الاحالات للفنون من رسم وموسيقى وعمارة، مما يرهق القارئ ويشتت ذهنه.

يقول جان إيف تادييه في المقدمة العامة للرواية: تبين لنا أن هذه الرواية إنما تستعيد لا الحياة فحسب، بل الآداب والفنون الأخرى”

اعتماد الكاتب على سرد الذاكرة المتقافزة يجعله يتجاوز بعض الأحداث ضمن تسلسلها في السرد ثم العودة إليها ليسردها من جديد بحرية كاملة ومن زوايا متعددة. وهناك لا ترابطية للنص لدرجة ضياع خيط السرد فيشعر القارئ بالحيرة. يسرد الراوي بعض الأحداث بتقنية السارد العليم فهو يعلم ما تفعله الشخصيات بعيدا عنه بل وبما تفكر وأفكارها الداخلية، وكأنه هنا يدمج بين تقنية السارد العليم والسرد بضمير المتكلم، وفي أماكن أخرى نجده يوجه الخطاب للقارئ.

ويوضح هذا جان إيف تادييه في المقدمة: “إن وحدة الفكر الإبداعي تشبه الوحدة التي سبق أن لاحظها بروست لدى راسكين، أنه ينتقل من فكرة إلى أخرى دون إي نظام ظاهر”

 

عبر صفحات الرواية تأتي الفقرات الطويلة التي تميز أسلوب بروست السردي، تغوص في المشاعر والأحاديث الداخلية والأفكار، وكيف يتصرف الناس في المواقف المختلفة، ولماذا يتصرفون كذلك وكأننا أمام درس في علم النفس وعلم سلوك الأفراد.

” ولكن الأفراد كلما ازددنا معرفة بهم أشبه بمعدن غُمس في مزيج مفسد، فتراهم يفقدون شيئا فشيئا صفاتهم (كما يفقدون أحيانا عيوبهم)”

 

الرواية والمجتمع الفرنسي:

تعج الرواية بحوارات ونقاشات للشخصيات حول الفن والأدب والموسيقى، وفرق البالية الروسية، وباكست، ونيجينسكي، وبونوا، وسترافنسكي وغيرهم، بل قد نسمع أحدهم يعزف مقطوعة لشوبان. شخصيات الطبقة الارستقراطية وكذلك شخصيات الطبقة البرجوازية التي تنسخ كل اهتمامات وطباع الطبقة الارستقراطية، ونتعرف على الفرق بين الأسماء وطريقة نطق تلك الأسماء بين الأسر الارستقراطية، وكيف تحذف السواكن من الاسم أو إضافة دو، كيف يؤثر ذلك على مكانة الشخص وترتيبه في ذلك المجتمع.

يرسم الراوي لوحة للمجتمع الفرنسي في تلك الفترة بكل تناقضاته وعيوبه، بالتركيز على شخصيات الرواية من الطبقة الارستقراطية والطبقة البرجوازية. اللوحة بتدرجات ألوانها توضح حقيقة النفاق والقسوة: ” مهابة الارستقراطية وجبن البورجوازيين”.

وتعج الرواية بالنقاشات الأدبية والادعاءات والكثير من السفسطة والاستعراضات لشخصيات تدعي المعرفة.

ونرى على اللوحة وصف الشخص الفضولي وكيف يتصرف بتشبيهات بروست الأدبية الدقيقة والرائعة والتي يستفيض فيها لنرى اللوحة بأبعادها الثلاثية فهو لا يكتفي بالصورة المسطحة بل يغوص عميقا في الأفكار والمشاعر.

 

يرصد الراوي أثر التغيرات في المجتمع الفرنسي ونرى كيف تتم مناداة السائق بالسيد. وبدء التخلص من الفروق بين العمال والبرجوازيين وكبار السادة. ويرصد دهشة البعض مما يحدث وكيف يقابلوا هذه التغيرات الجذرية في قواعد المجتمع: ” إما لأن كبار السادة لا يزدرون العمال كما يفعل البرجوازيين…”

فحقيقة الازدراء يتم من شخصيات تظن أن الازدراء يعطيها قيمة اجتماعية أكبر. ونتأمل كيف تتغير حياة الناس عبر الزمن بتغير الأدوات والوسائل: ” ومنذ نشأة الخطوط الحديدية علمتنا ضرورة ألا يفوتنا القطار أن نحسب حساب الدقائق فيما المفهوم لدى قدماء الرومان الذين لم يكن علم الفلك عندهم أكثر بدائية فحسب بل كانت الحياة عندهم أقل استعجالا، فإن مفهوم الدقائق بل حتى مفهوم الساعات المحددة، كاد يكون معدوما”

يرصد بعمق تصرفات وسلوكيات الناس في تلك المجتمعات والصالونات التي تتبع تقاليد صارمة، وتنظر للأشخاص بحسب مكانة الأسرة وتتم السخرية ممن هو أقل حظا: ” ويبدو وكأني بهم زمرة من آكلي لحوم البشر أيقظ فيهم جرح أحد البيض شهوة الدم. ذلك لأن غريزة التقليد وغياب الشجاعة إنما يحكمان المجتمعات مثلما يحكمان الجماهير. والجميع يضحكون ممن يرون الناس يضحكون منه، على أن يجلوه بعد عشر سنوات في منتدى هو فيه موضع إعجاب. وإنما يطرد الشعب الملوك أو يرحب بهم بالطريقة نفسها”.

 

نستمع للآراء السياسية حول من يستحق عرش فرنسا. ونعيش عبر صفحات طويلة من جديد مع لمحة تاريخية عن معاني الأسماء والمدن والمحطات، وأثر النورمانديون والألمان وحتى المغاربة على الأسماء تلك.

هناك إشارات للتعصب ضد اليهود في المجتمع الفرنسي، وضرورة أن يكون هناك فصل في سكن الناس حسب دياناتهم.

الرواية لا تركز على طبقة الأغنياء فقط في المجتمع الفرنسي، بل تعرج بلمحة خاطفة على أوضاع الفقراء، مع ذلك الأب الذي يوزع أبنائه على الأغنياء لعجزه عن اطعامهم.

 

الزمن ومشاعر الراوي:

ويشير إلى دور الوراثة داخل الأسرة الواحدة لتشابه افرادها كلما مر الزمن: ” فإنه ابتداء من سن معينة وحتى لو تحققت في دواخلنا تطورات مختلفة، كلما أصبح المرء ذاته كلما برزت القسمات العائلية” هنا يحاول أن يفسر لماذا يتصرف في مواقف معينة كما تصرفت سابقا جدته أو أمه، فيستوقفه ذلك ليتأمل ويحاول معرفة السبب. وتلح عليه ذكرى جدته الراحلة التي أحبها ” ثم إننا في طقوس الأسف على موتانا إنما نخص ما أحبوه بعبادة صنمية”

ويعيش القارئ لحظات ممتعة وهو يرصد مشاعر الراوي عندما يرى الطائرة لأول مرة، بل مشاعر الجواد الذي يتوقف عن العدو رهبة وهو لا يدري حقيقة الضجيج الذي يسمعه لمخلوق غريب يلوح في السماء.

 

كيف نشعر بالزمن خلال نومنا؟ يدهشنا الراوي وهو يصف النوم كأنه شقة أخرى نذهب إليها ونترك شقتنا التي نعيش فيها. لكن الإحساس بالوقت مختلف في تلك الشقة، وحتى البشر هناك جنس آخر. اليقظة أو العودة من النوم كأن حصاة نيزكية صغيرة، ألقى بها مجهول من القبة الزرقاء لتصيب النوم المنتظم ولولا تلك الحصاة لربما دام بحركة إلى أبد الآبدين. فهل يصف الموت هنا؟

الاستيقاظ يكون انعطافه مفاجئة إلى الواقع تجعله يحرق المراحل. ويستفيض في سرد تلك اللحظة عندما يستيقظ الشخص وهو لا يعلم من هو وأين هو!

لا يكتفي بذلك بل يستطرد ويشبه النوم بعالم النجوم. فالنوم يجعلنا خارج الزمن وقياسه. المتع التي نحس بها خلال النوم لا نضعها في حساب المتع التي نحس بها خلال حياتنا: ” لقد أصبنا متعة في حياة أخرى ليست حياتنا”، ” ولأن الحياة الأخرى، الحياة التي ننام فيها، قد لا تكون في قسمها العميق خاضعة لفئة الزمن”

 

عذاب الشك والغيرة:

ويرصد المؤلف بهدوء تقلب المشاعر، كيف نشتاق للشخص ونتمناه وعندما نحصل عليه تتحول مشاعرنا.

وهناك مشاعر القلق وعدم الثقة بالنفس والرغبة الأنانية بالاستحواذ على شخص ما، وعذابات مشاعر الغيرة والشك.

روعة التصوير لدهشة الراوي وصدمته عندما يعرف أن البرتين تعرف ابنة فانتوي، فيصور ذلك الألم والغضب والحزن بل الفجيعة، فيجعل القارئ يلمس كل ذلك الحزن مرسوما على ملامحة. فتبدأ علاقة الغيرة وعذاب الشك بين الراوي والبرتين.

ويفاجئ القارئ في الصفحة الأخيرة للرواية بإصراره على الزواج من ألبرتين رغم كل شيء.

 

في هذا الجزء الرابع من الرواية يجد القارئ نفسه يألف تلك الشخصيات الكثيرة والتي لم تعد مربكة له، فهو الآن يتعرف سريعا على الاسم الذي تكرر كثيرا، وكل جزء من الرواية يساهم في توضيح ملامح تلك الشخصيات فيضيف إليها المزيد من الحياة فتصبح مألوفة أكثر للقارئ.


 https://mirdad.app/articles/4579/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9-%D9%85%D9%86-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%AD%D8%AB%D8%A7-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%82%D9%88%D8%AF-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D8%B1%D9%88%D8%B3%D8%AA-%D8%B3%D8%A7%D8%AF%D9%88%D9%85-%D9%88%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%88%D8%B1%D8%A9

أمين معلوف و غرق الحضارات

 

هل كانت الحياة في الماضي أجمل، أم حياتنا في الحاضر هي الأجمل؟

يشعر كثيرون بالحنين للماضي، للزمن الجميل. لكن مؤلف الكتاب أمين معلوف يؤكد أنه ليس ممن يحلو لهم الاعتقاد أن الأمور كانت أفضل من قبل. فالاكتشافات العلمية تبهره، وتحرر العقول والأجساد يبهجه، ويرى أن العيش في عصر مبدع ومبهج مثل عصرنا هو امتياز. 

يبدا أمين معلوف كتابه بلغة حميمية، يتحدث عن مشاعره ويقارن بحال الناس في الماضي، الذين عاشوا ظروف ثابتة لم تتغير لفترة من الزمن: “الذين يتراءى لهم أنهم زائلون في عالم ثابت لا يتغير؛ يعيشون في الأراضي التي عاش فيها أهلهم، يشتغلون مثلما اشتغلوا، يعتنون بأنفسهم مثلما اعتنوا بحالهم، يتعلمون مثلما تعلموا، يُصلون على المنوال نفسه، وينتقلون بالوسائل نفسها. لقد ولد أجدادي الأربعة وجميع أسلافهم منذ اثنى عشر جيلا في ظل السلالة العثمانية نفسها، فكيف لا يخالونها خالدة؟".

 

يشعرنا المؤلف بالقلق من الصفحات الأولى للكتاب بقوله: " غير أنني أراقب منذ بضع سنوات، انحرافات تبعث على القلق المتزايد، وتهدد بإفناء كل ما بناه جنسنا حتى الآن، كل ما نعتز به اعتزازا مشروعا، كل ما نعهد تسميته حضارة".

 

يعرج لسبب اختيار عنوان الكتاب بغرق الحضارات: " لقد استعنت بمفردات بحرية، لأن الصورة التي تقض مضجعي، منذ سنوات، هي صورة الغرق – سفينة حديثة، متلألئة، واثقة من نفسها، مشهورة بأنها لا تغرق، مثل التايتانيك، تحمل على متنها أعدادا غفيرة من الركاب من جميع البلدان والطبقات الاجتماعية كافة، وتمضي وسط الصخب نحو هلاكها". ويعود لتأكيد الفكرة: " أنني أرى بهلع جبال الجليد تلوح أمامنا، وأتضرع إلى السماء بورع، على طريقتي، أن ننجح في تفاديها". 

 

وعبر صفحات الكتاب ال 319 صفحة سيرسم للقارئ ملامح الصورة لتكون واضحة، ماذا يقصد بغرق الحضارات. 

يشير لبعض ملامح الغرق القادم مثل أحوال واشنطن عاصمة القوة العظمى الأولى في العالم التي يجدر بها أن تكون مثال الديمقراطية الناضجة وتمارس على الأرض سلطة شبه أبوية لكنها توحي لنا بالغرق الوشيك، لأن ما تمارسه في الواقع يتناقض مع شعاراتها عن الحرية والديمقراطية. 

انسحاب بريطانيا من الوحدة الأوروبية والتي حطمت أكثر الأحلام الواعدة في عصرنا. إن جموح الرأسمالية الفاحش بالفوارق الاجتماعية يوحي بما لا يدع مجال للشك بأنه غرق، على المستوى الإنساني والأخلاقي والسياسي.  

 

بعد رسم ملامح عامة للعالم يعود الكاتب للشرق، لعالمه وأمته العربية لنرى ملامحها بوضوح.

يبدأ بيوم مولده والمنطقة في أسوأ حال: "والرحلة إلى الجحيم كانت قد بدأت، ولن يقدر لها أن تنتهي".

 كانت عائلته تملك منازل في منطقة الأناضول وجبل لبنان والمدن الساحلية ووادي النيل، لكنهم سيفارقونها جميعا، لأن الأحوال في الشرق بدأت تتغير ولم يعد شيء كما كان. 

 

يأخذ القارئ في جولة مع الأحداث التي عايشها مع أسرته وكيف تغيرت أحوال الأسرة تغييرا دراماتيكيا بحيث يجد القارئ مثال حي وملموس يفهم من خلاله كيف تأثرت أحوال الناس بما حدث في المنطقة، وكيف سارت الأمور نحو الأسوأ بدل من السير نحو الأفضل. 

يحاول الكاتب أن يرصد بعض الأسباب التي أدت لهذا. قبل ولادته بأسبوعين اغتيل حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين ردا على اغتيال رئيس الوزراء المصري، كانت مصر تعيش أيامها حالة غليان. كانت المواجهات بين التنظيم الإسلامي وسلطات القاهرة مستمرة منذ عشرين عاما.  مصر في ذلك الزمن كانت وطنا ثانيا لأسرة المؤلف، والده كان معجب أشد الإعجاب بحياة مصر الثقافية الغنية، وشعرائها، ورساميها، وملحنيها، وبالمسرح والسينما والصحف ودور النشر فيها. 

وكان كثير ممن ذهبوا للعمل في مصر مثل جده كونوا ثروات وحصلوا على ألقاب نبيلة مثل باشا وكونت أو أمير. 

فمصر كانت توفر للمهاجر المكافح امتيازات لم تجد ما يضاهيها قط منذ ذلك الحين. وسيصبح الملحنون والمطربون والممثلون والأدباء والشعراء في مصر ولفترة طويلة نجوما في أنحاء العالم العربي كافة. أحمد شوقي الشاعر الملقب بأمير الشعراء كان رمزا لنهضة ثقافية عربية ساد الاعتقاد في ذلك الوقت بأنها حتمية، وبأنها وشيكة، وبأنها ستبزغ بالضرورة انطلاقا من وادي النيل. وهناك طه حسين أكثر المفكرين المصريين إجلالا في عصره، كان من الشخصيات المستنيرة يدعو الباحثين العرب إلى إعادة دراسة التاريخ بأدوات علمية معاصرة، عوضا عن اجترار الأفكار الموروثة عن القدماء. وحين طلب شيخ الأزهر أن يحاكم طه حسين بسبب أفكاره، رفضت الحكومة المصرية واعتبرت أن الأمر يندرج في إطار سجال أكاديمي عادي لا يجب أن يتدخل فيه القضاء. وعُين طه حسين في أرفع المناصب، وكان أول قرار اتخذه عندما كان وزير للمعارف هو إقرار مجانية التعليم. يذكر المؤلف كثير من الشواهد التي تظهر بوضوح أن مصر كانت بلد استثنائي في تلك الفترة، بلد يعيش حقبة مميزة من تاريخه. وفي أحد الأيام تبدلت أحوالها ولم تعد تبشر بالوعود التي يبدو أنها قطعتها.  

 

يسرد بحزن مصير أسرته التي عاشت طويلا في مصر، كان عليهم مغادرة مصر، بعد قرار الرئيس عبد الناصر الذي أعلن موت مصر الكوزموبوليتية والليبرالية. واتخذ جملة من التدابير تهدف لطرد البريطانيين والفرنسيين واليهود من البلد، بعد العدوان الثلاثي " وفي الحقيقة، أدت تلك السياسة إلى نزوح جماعي لجميع الطوائف التي يقال عنها متمصرة، وبعضها كان موجودا منذ أجيال، بل منذ قرون، على ضفاف النيل. " 

 

يعقد المؤلف مقارنات بين موقف عبد الناصر ونيلسون مانديلا الذي حرص على بلده وسعى لاستقرارها وعافيتها الاقتصادية ورأى أن من الأفضل للبلد بقاء الأقلية البيضاء، وشجع أعداء الأمس على عدم هجرة البلاد. 

 

وفي الستينات تحل بيروت محل القاهرة بوصفها عاصمة ثقافية للمشرق العربي، فرغم شهرة عبد الناصر عربيا إلا أن "سلطته ضيقت الخناق على الصحف ودور النشر والأوساط الأكاديمية والحركات السياسية. لذلك انتقلت ساحة السجالات العربية إلى أرض محايدة لا تهيمن فيها أي سلطة قمعية". 

وهكذا يتحول لبنان إلى" أرض اللجوء لفئات المنبوذين في الشرق الأوسط، مثلما فعلت مصر بعض الشيء حتى الأربعينات من القرن العشرين". 

" كانت مصر التي عاشت فيها أسرة أمي تنهار. لم تعد سوى ذكرى من الماضي، والشاهد المحتضر على عصر غابر. لقد سدد إليها عبد الناصر الضربة القاضية، ولن تنهض من جديد".

 

يستمر عرض المؤلف لتلك الأحداث الدرامية التي تجتاح الدول العربية، انقلابات، حروب أهلية، اتهامات متبادلة بالبحث عن حلفاء أقوياء من خارج الوطن. ويصبح لبنان مسرح لأحداث مأساوية.

"ومن البديهي أن ثمة أمرا خطيرا بل ومذهلا يحصل في هذه المنطقة، أسهم في اختلال عالمنا، وانحرافه عن السكة التي كان يجب أن يسلكها".

من خلال سيرة أهله وسيرة حياته يعرض لنا الكاتب تلك التناقضات والمآسي التي تجتاح المنطقة. وكيف يتأثر أهلها بأحداث وتوازنات عالمية لا يفهمونها. التنقل بين أحداث الماضي والحضارة المزدهرة لواقع شعوب أصبحت تائهة، يحاول المؤلف أن يفهم ما الذي يحدث فعلا، ولماذا تتصدع المجتمعات العربية التائهة في واقع لا تفهمه وهو يرصد الكثير من الأحداث والوقائع.

" عندما لا يعود باستطاعة المرء أن يمارس حقوقه كمواطن من دون الإشارة إلى اصوله الإثنية أو الدينية فهذا يعني أن الأمة بأسرها قد سلكت طريق الهمجية". 

 

ويبحر الكاتب عبر مختلف الفلسفات وأفكار المفكرين المعاصرين لفهم ما يحدث للإنسان المعاصر وللقيم الإنسانية ونحن نعيش مآسي متتالية. يعاني كثير من البشر وخاصة العرب من الفقر والتهميش والجهل والحروب التي لا تنتهي، فأين أحلام البشر بحياة معاصرة خالية من التعصب والتباينات بين البشر! 

ويقتبس الكاتب من رواية 1984 من كلمات المؤلف الذي حذرنا بأن الأفعال الوحشية القاتلة قد ترافق التقدم العلمي والابتكارات التكنولوجية، مما يؤدي لانحراف مسار البشر رغم ما أحرزوه من تقدم في ميادين عديدة لكنهم يقعون في فخ ضياع حرية التعبير والكلام والكتابة. فحياتنا المعاصرة "تسلع كل شيء: أذواقنا، آراؤنا، عاداتنا، وضعنا الصحي، معلومات الاتصال بنا والأشخاص الذين نخالطهم..."

 

هكذا يرصد الكاتب الكثير من المخاوف، ويحاول البحث عن تفسيرات لما يحدث في واقعنا من تناقضات، لينهي الكتاب وهو يتمنى أن نستخلص الدرس قبل أن تصفعنا المصائب صفعا، حتى لا يكون مصير البشرية كمصير سفينة التيتانيك التي اصطدمت ليلا بجبل جليدي، بينما الأوركسترا تعزف. 

 

يلخص لنا الكاتب أفكاره وتحليلاته لنصف قرن وهو يتأمل أحداث العالم المضطرب ويحاول البحث عن حلول لسفينة العالم قبل أن تغرق رغم حضاراتها وتفوقها التكنولوجي لكنها تغرق في مشاكلها الأخلاقية المتعددة. 

 

حاز هذا الكتاب على جائزة اليوم 2019 – جائزة التحكيم الخاصة بالكتاب الجيوسياسي.

https://mirdad.app/articles/4510/%D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%81-%D9%88-%D8%BA%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA