خارطة الفساد




يفتتح الباحث يحيى صالح محسن دراسة له حول الفساد في اليمن بحكاية طريفة  حول مطالبة وزارة الدفاع الأميركية نظيرتها اليمنية بالأحذية والبدلات العسكرية الثلاث، والتي صرفت لثلاثة أفراد قاموا بحراسة سفارتها وعليهم إعادة الملابس التي استخدموها لمدة عام، والاستغراب الذي قابل به المسؤولون اليمنيون ذلك الطلب، ومن ثم إصرار الوزارة الأميركية على طلبها، ليؤكّد على البون الشاسع بين دولتين أولاهما تزداد قوة، والأخرى تنزلق يومياً باتجاه هاوية سحيقة.


























يعتمد الباحث  في توضيح مفهوم الفساد على عدد من التعريفات ومنها تعريف منظمة الشفافية الدولية التي تعرف الفساد بأنه "سوء استخدام السلطة الممنوحة من أجل تحقيق منفعة خاصة"، ويضيف إلى ذلك تعريف الألماني ماكس ويبر من أن الفساد هو سلوك ينحرف عن الواجبات الرسمية لدور عام، بسبب مكاسب شخصية أو قرابة عائلية أو عصبية خاصة مالية أو لمكانة خاصة أو سلوك يخرق القانون عن طريق ممارسة بعض أنواع التصرفات من أجل المصلحة الخاصة.
ويعد الفساد نقيضاً للحكم الرشيد ويتعارض مع قيم النزاهة والشفافية، وإنه كلما اتسعت رقعة الفساد - وخاصة في البلدان النامية - كلما كان ذلك على حساب الاستثمار والتنمية والاستقرار، وهو ما نلمسه بوضوح في حياتنا…
و لمناهضة الفساد لابد من الديمقراطية،  لأن البيروقراطية تمثل مصدراً رئيساً لتفشي الفساد، بسبب غياب المساءلة والمحاسبة وتشابك المسؤوليات والتعقيدات المقصودة للروتين، وإغراق المعاملات في دهاليز ومستويات إدارية متعددة، ما يزيد من غموض النظام، ومساعدة الفاسدين على طمس مخالفاتهم الإدارية وخروقاتهم القانونية، وبالتالي تعذر تحديد المسؤولية المباشرة عن الممارسات الفاسدة، وهي التي تسهم أيضاً في إبعاد المسؤولين عن واجباتهم ومسؤولياتهم تجاه المواطنين، وعن قضايا واحتياجات الناس، وتعمل على تعطيل القرارات وسير المعاملات.
ويقترح الباحث في كتابه "خارطة الفساد في اليمن.. أطرافه النافذة" إعادة النظر في البنية التنظيمية للإدارة المؤسسية، باعتماد نظام الحكومة الإلكترونية، واتباع نظام إداري يقلص من المتطلبات والإجراءات الإدارية غير اللازمة، ويقلل من تعدد الحلقات الإدارية، ويقلل من فرص الاحتكاك أو اللقاء المباشر للموظف العام بأصحاب المصالح من الجمهور، واستخدام التقنيات الحديثة كبرامج الكمبيوتر التي تحد من تدخل الموظف، وبالتالي من احتمالات الرشوة، وتسهيل المعاملات وتبسيط الإجراءات الإدارية، بتحديد الخطوات والمراحل الإجرائية وآليات سير المعاملات، من حيث طريقة تقديم الطلبات، والوثائق أو المستندات المطلوب إرفاقها، والمدة الزمنية المطلوبة لإنجاز المعاملات بأنواعها، ونشر كل هذه المعلومات في دليل، على بوابة كل مرفق حكومي، وتعميم صناديق الشكاوى في المرافق الحكومية كافة، لتمكين المواطنين أصحاب المصالح من تقديم شكاواهم بالمخالفات الإدارية والقانونية، وعمليات الابتزاز التي يواجهونها من قبل الموظفين، واتباع آلية شفافة في فتح تلك الصناديق دورياً أمام الجمهور، ومن ثم اتخاذ المعالجات والإجراءات الإدارية والقانونية المناسبة، بصورة علنية، وتفعيل عمل الإدارات الرقابية داخل كل مرفق حكومي، بما يكفل تأمين التزام الموظف العام بالقوانين والإجراءات الإدارية السليمة، والتقييم المستمر لأدائه الوظيفي، واقتراح المعالجات والإجراءات التبسيطية للروتين وفقاً لذلك شريطة أن لا تضيف مثل هذه السياسة عبئاً إضافياً، أي عدم معالجة البيروقراطية بمزيد من البيروقراطية.
وهي مطالبات نحترم الباحث عليها ولكن كم موظف حكومي يحسن استخدام جهاز الكمبيوتر؟؟؟؟!!!!
ويشدد الباحث على ضرورة حظر الجمع بين العمل الحكومي والرسمي والنشاطات الاستثمارية والتجارية والمالية، أياً كانت، محلية أو خارجية، بالأصالة أو الوكالة، والعمل على تعديل (المادة 136) من الدستور ليشمل الحظر، إضافة إلى رئيس الوزراء والوزراء كلا من: رئيس الجمهورية ومستشاريه ونائب رئيس الجمهورية، والمحافظين ووكلائهم ونوابهم ورؤساء السلطتين التشريعية والقضائية ونواب ووكلاء الوزارات، ورؤساء المؤسسات والأجهزة الرسمية، وكذلك كبار ضباط القوات المسلحة والأمن مع تشديد القيود والضوابط المنظمة لذلك، لوضع حدٍ لسياسة ما يسميه البعض بـ"الدولة - المزرعة" ومنع استمرارية بقاء السلطة مصدراً للثروة والإثراء، و وقف الارتجال في توزيع مشاريع التنمية والخدمات العامة كهبات، عبر رموز السلطة العليا لمحافظات ومديريات البلاد، خارج إطار الموازنات والخطط المدروسة وبرامج التنمية المعتمدة رسمياً، وتحريم استغلال وتسييس الوظيفة العامة من أجل تحقيق مصالح خاصة أو سياسية، ومنع عمليات التعيين والترقية للأقارب، وكذلك المحاباة والمحسوبية والوساطة، والتعيينات التي تتم على أساس الولاء السياسي أو الانتماء الحزبي أو الأيديولوجي أو الأسري أو القبلي أو المناطقي، على حساب المعايير الموضوعية للكفاءة العلمية والعملية ، مع مراعاة تدوير المناصب والوظائف الحكومية، على الأقل الوظائف الحساسة ذات العلاقة بمجالات الفساد المحتملة.
          


ويحدد الباحث مستويين للفساد أولهما فساد النخبة في هيكل السلطة العليا، التي تمتلك علاقات وشبكة مصالح واسعة مع ممثلي الشركات والمؤسسات التجارية والاستثمارية الكبرى، محلية كانت أم خارجية، وتسيطر على مراكز القرار السياسي والاقتصادي، وعلى مصادر المعلومات والأجهزة الأمنية، وتؤثر سلباً على استقلالية وأحكام القضاء، كما أن سطوتها ونفوذها القوي يظهران بشكل واضح ومباشر في الاستثمارات الحكومية والمقاولات الكبيرة، وفي نهب الأراضي والقروض والأملاك العامة، والآخر  يعرفه بالفساد الصغير أو الفساد في المستويات الأدنى، والذي يتغلغل في المفاصل الإيرادية لأجهزة الدولة، كالإدارات الضريبية والجمركية والمؤسسات المالية الحكومية الأخرى أو الخاصة، وإدارات منح التراخيص وأجهزة الرقابة والتفتيش ومؤسسات الخدمة المدنية، إضافة إلى الفساد "المقيم" في أروقة المحاكم وإدارات الأمن والشرطة. لكنه نسي المواطن العادي والتعيس وهو يمارس الفساد في كل مايفعله وفي تربيته لأبنائه…
ويشير الباحث إلى أنه من الصعب أحياناً الفصل بين مستويي الفساد بحكم التقاطعات وحالة الترابط والتأثير المتبادل في ما بين المستويين، غير أن الفساد الكبير، كما هو في البلدان النامية - ومنها اليمن-، يكون واضحاً وأكثر خطورة من حيث ارتباطه بالنخب الحاكمة وبالصفقات الكبرى كالمقاولات والتوريدات الضخمة وصفقات السلاح والتوكيلات التجارية الكبيرة التي تكون الشركات الدولية طرفاً فيها.
تذكر الدراسة أن الشركات النفطية الأمريكية تتحايل باستئجار وكلاء محليين لها، يقومون نيابة عنها بتقديم الرشاوى إلى المسؤولين المحليين، حتى تكون صفحتها بيضاء أمام القضاء الأميركي، وجهات الرقابة والمحاسبة الأميركية التي تحظر عليها ممارسة الرشوة في الخارج، وفقاً للقانون الأميركي.
وتستند إلى ملاحظات تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن مناخات الاستثمار في اليمن الذي يعتبر الهيئة العامة للاستثمار نموذجاً غير فاعل، وهيكلية غير منتظمة، وأصبح جلياً أن الهيئة العامة للاستثمار لا تستطيع التصديق أو حتى التأثير من أجل الموافقة على مشاريع الاستثمار الرئيسة في اليمن بدون الموافقة الشفهية أو المكتوبة من الكيانات السياسية الأكثر قوة، أو من بضعة شخصيات سياسية رئيسة بالنسبة للمشاريع النفطية.
ويؤكد الباحث أن  الحزب الحاكم يلعب دوراً سلبياً، عبر الفساد واستخدام المال العام في الاستقطاب السياسي وتوسيع دائرة الموالين للسلطة الحاكمة، وربما يظهر دوره أيضاً في توزيع العطايا والمكافآت والاعتمادات المالية، سواء للأفراد أو للشخصيات العامة أو للأحزاب الصغيرة "الديكورية" لإبقائهم في الحظيرة السياسية، وتبين الدراسة جزءاً من الدور السلبي الذي يلعبه الحزب في تشويه الحقائق عبر وسائل إعلامه العديدة، وتفريخ الأحزاب وشقها، واستنساخ الصحف الأهلية والحزبية المعارضة، وإضعاف المجتمع المدني بما يفضي إلى مسخ التعددية السياسية والعملية الديمقراطية الناشئة، فضلاً عن تسييس الوظيفة العامة والتعيينات والترقيات والامتيازات الوظيفية، وحصرها فقط على المنتمين إلى الحزب الحاكم دون غيرهم، وإقصاء الآخرين.
ويرى الباحث  أن  قطاع النفط هو المرتع الخصب والأول لفساد السلطة ومراكز النفوذ بمستوياتها العليا، وما يرافق ذلك من ممارسات شديدة التعتيم على معظم البيانات الأساسية المتعلقة بالقطاع النفطي، فالقطاع لا يعرف شيئاً ولا يتلقى أية بيانات عن حجم الصادرات الفعلي من النفط، ولا مقدار عائداته (باستثناء البيانات المسموح بإعلانها)، والتي تصل بعد مرور أسابيع عديدة، إذ أن موانئ ومراكز تصدير النفط محظور دخولها أو الاقتراب منها حتى على الأجهزة الرقابية الرسمية، ومنها الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.




كما لا يعرف قطاع الإيرادات في وزارة المالية شيئاً عن سياسة أسعار الصادرات وآليات احتسابها، وكذلك الأمر بالنسبة لكيفية تدفق أو توزيع مشتقات النفط إلى مناطق ومحافظات البلاد، وهو الأمر أكده رئيس مجلس النواب الأسبق بأن السلطة التشريعية والرقابية، وكذا رئاسة البرلمان لا تعلم شيئاً عن البيانات الحقيقية للنفط، وأن مجرد الحديث والمطالبة ببيانات ومعلومات عن القطاع النفطي يثير ردود فعل سلبية وغاضبة ولا يتم التجاوب معها، وهو ما يعنى أن بيانات النفط الحقيقية لا يعرفها سوى أنفار قلائل، وتمر فقط عبر قناة ضيقة تقتصر على الشركات النفطية وموانئ التصدير ويصل طرفها إلى أعلى هرم السلطة.
يستنزف فساد الشريحة العليا في النظام الحاكم والمراكز النافذة في السلطة الأرقام الفلكية الناجمة عن فوارق أسعار النفط بعكس الحال القائم في دول الخليج والدول النفطية الأخرى التي تعمل حكوماتها على توظيف تلك الفوارق في برامج استثمارية إضافية حقيقية، فيما تستأثر رئاستي الجمهورية والوزراء ووزارات الدفاع والداخلية والأمن بشقيه السياسي والقومي، والمؤسسة الاقتصادية اليمنية بالاعتمادات الإضافية المركزية، وجميع تلك الجهات لا يقترب منها مفتشو الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، ولا يرد ذكرها في تقارير الجهاز، رغم أنها عملية شكلية، وقد رفضت الحكومة، وعلى مدى السنوات الماضية، توصيات مجلس النواب المتكررة بإلزام الحكومة فتح صندوق أو حساب خاص في البنك المركزي تورد إليه المبالغ الناتجة عن فوارق أسعار النفط، وأن لا تقوم الحكومة بالصرف منه إلا بعد موافقة البرلمان، بحسب القانون، وهو ما وعدت الحكومة وتعد الإلتزام به في كل عام دون أن تنفذه.
رابط الكتاب لمن يريد قراءته كاملا:

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصمت عار

فيلم Alpha

الكرد في اليمن، دراسة في تاريخهم السياسي والحضاري 1173 - 1454م لدلير فرحان إسمايل