هل نتعلم الدرس

سافرت إلى دولة رواندا، هل تتذكرون رواندا؟
 نعم إنها تلك الدولة الأفريقية التي انزلقت لحرب أهلية مرعبة قتل فيها ما يقارب مليون شخص بريء خلال 100 يوم. أفراد من قبيلة الهوتو ذبحوا وسحلوا أفرادا من قبيلة التوتسي رجالا ونساء وأطفالا. دُمرت البلد نتيجة لتلك الأحداث الرهيبة. اليوم في عام 2019 تشهد رواندا انتعاشا اقتصاديا يثير إعجاب الجميع. ما الذي حدث؟ لماذا حدثت المجازر؟ وكيف تجاوز الروانديون ماضيهم المخيف؟
ذهبت لزيارة النصب التذكاري للإبادة الجماعية التي حدثت برواندا عام 1994م في العاصمة كيغالي، بحسب اقتراح موظف الفندق، أخبرني أنه من أهم المعالم السياحية في البلاد. حقيقة تعجبت، كيف يكون متحف يحمل ذكريات مذبحة مكانا يتم الترويج له سياحيا؟!

هناك عرفت السبب!

يعرض المتحف الحكاية من البداية، فيعود بنا قليلا إلى الماضي البعيد لنرى تلك الأيادي الخارجية التي تزرع الفتن بين أبناء البلد الواحد المكون من قبيلتين الهوتو والتوتسي، بينهم روابط مشركة فهم يتحدثون لغة واحدة، وينتمون لدين واحد. تعرضت رواندا للاستعمار الألماني ومن بعده الاستعمار البلجيكي، وكلا الاستعمارين لجأ لسلاح التصنيف، فتم تصنيف سكان رواند بحسب القبيلة الهوتو وهم الأكثرية، وقبيلة التوتسي وهي قبيلة الأقلية من السكان. تم تعميق الفجوة بين أبناء القبيلتين بوضع بند القبيلة في بطاقة الهوية في العلم 1931، المستعمر البلجيكي أعطى امتيازات لأبناء قبيلة التوتسي لقمع واضطهاد أبناء قبيلة الهوتو، عندما تذمر أبناء قبيلة الهوتو من سوء أوضاعهم دعمهم البلجيكيون وحرضوهم ضد التوتسي ونشروا بينهم أن التوتسي أغراب ولا ينتمون لرواندا، فقامت في الخمسينات أول ثورة ضد التوتسي وخربت ممتلكاتهم وهجروا من ديارهم، وتصاعدت مشاعر الكراهية والحقد بين أبناء البلد الواحد. حدثت عدة صدامات ومجازر متتالية كان أبشعها ما حدث في عام 1994 من حرب إبادة جماعية لم يسبق لها مثيل باستخدام المناجل قام بها متطرفون من الهوتو ضد أبناء التوتسي ودعمتهم حكومة عنصرية وإعلام رسمي محرض.

عندما وقفت أمام الصور أستمع لأسباب حدوث حرب الإبادة ذهب ذهني إلى هناك، إلى اليمن، قفزت لذهني التحريضات العنصرية وصعود التصنيف الطائفي والعرقي، وتلك اللغة التي تتنفس الكراهية والبغضاء، والأصوات التي تنعق بالخراب والقتل والإبادة ضد طوائف معينة في المجتمع، وأصوات تنادي بطرد فئات أخرى من المجتمع بدعوى أنهم ليسوا من أهل البلاد. تبا، هل هي نفس التربة التي تنبت فتنتج الخراب والدمار والهلاك؟
لنكمل الحكاية من رواندا، ففي يوم السادس من أبريل 1994 سقطت طائرة الرئيس الرواندي وهو من قبيلة الهوتو وبعد ساعة واحدة تبدأ عمليات القتل والذبح للجيران ولكل من يصادفونه من قبيلة التوتسي حدث ذلك والإذاعة الرسمية في البلاد تبث سموم الكراهية وتشجع المتطرفين للقيام بقتل كل من ينتمي لقبيلة التوتسي، والمذيع يصرخ عاليا: اسحقوا الصراصير، أبيدوهم. مائة يوم من الحزن والدموع والرعب والعالم يتناقل الصور على شاشات التلفاز ولا يفعل شيئا.

حرب الإبادة حطمت البنية التحتية للبلد من مستشفيات وكهرباء ومدارس. نجحت قوات الجبهة الوطنية الرواندية في السيطرة على البلاد، وتوقفت عمليات الإبادة، وهرب كثير ممن شارك في الجرائم لخارج البلاد. الرئيس الذي استلم حكم البلاد من 1994 وحتى 2002 حاول تطبيق القانون الجنائي على مرتكبي جرائم الإبادة فدخلت البلاد في فوضى عارمة وامتلأت السجون وفشلت المحاكم في النظر في كل القضايا المعروضة عليها.
وهذا ما يحدث عادة بعد سقوط نظام معين تتم ملاحقة أنصاره ومؤيديه وكل من ارتكب الجرائم في عصره، فتسود الفوضى وتكون الصورة قاتمة.

لكن الرئيس الحالي استلم الحكم وغير سياسة البلاد تماما، قال: “لم نأت من أجل الثار، لدينا وطن نبنيه، وبينما نمسح دموعنا بيد، سنبني باليد الأخرى”.
نعم الثأر، والانتقام، والنفي ومصادرة الممتلكات هي سياسات لا تبني بلدا، بل تعيق البناء وتدخل البلد في فوضى الكراهية والانتقام.

لنتذكر ماحدث في بلادنا على سبيل المثال بعد ثورة 1962 من ملاحقات ومصادرات وأحكام إعدام إلى أين أوصلتنا، وهو نفس التصرف في أغلب البلاد العربية بعد الانقلاب أو التخلص من النظام الحاكم السابق، لاتزال البلاد تعاني من الأحقاد المتوارثة، وها نحن نسمع أن هناك من يريد أن يعيد الحياة لحكم قامت عليه ثورة. لماذا؟
لنعد لتجربة رواندا ونرى كيف تعامل الرئيس الرواندي مع تلك المعضلة؟
اعتمدت الحكومة الرواندية سياسة “الوحدة والمصالحة” المستندة إلى نظام تقليدي يعرف باسم “غاكاكا”. فكرة الغاكاكا تقوم على الاعتراف بالخطأ والتكفير عنه بخدمة المجتمع، بعيدا عن فكرة إنزال العقاب على الجاني، وهذا ما تم تطبيقه على آلاف المتورطين والمتهمين بتنفيذ جرائم الإبادة الجماعية، وهم ممن تأثروا واستجابوا للشحن العرقي، وارتكبوا جرائم قتل ضد جيرانهم وأبناء قراهم، أسس رئس البلاد هيئة “الوحدة والمصالحة” التي حملت على عاتقها حل تلك المشكلة عبر تشكيل 1200 محكمة محلية في القرى والتي عرفت باسم غاكاكا، كل محكمة مكونة من تسعة قضاة يختارهم سكان القرية. وكل متورط يعترف بجريمته ويبدي ندمه ويطلب من أهالي الضحية العفو في وجود أفراد المحكمة وبقية أهالي القرية، عندما يحصل على المسامحة يحكم عليه بالعمل لخدمة الضحية لعدد من السنوات. كان ذلك العمل يهدف لتحقيق التسامح بين الناس حتى يستأنفوا العيش المشترك. لكن الشخصيات السياسية والقادة الذين أعطوا الأوامر بعمليات الإبادة تمت محاسبتهم ومحاكمتهم تحت إشراف الأمم المتحدة.

نعم مشكلتنا أننا لا نناقش مشاكلنا، نحن لا نعترف بوجودها، لهذا لازالت مشكلة الفتنة الكبرى التي حصلت في تاريخ المسلمين تؤثر على حياة الناس جيل بعد جيل، لأننا اتبعنا سياسة لعن الله من أيقظها، فظلت الفتنة نائمة ساكنة في القلوب وفي الوجدان، تطل برأسها كلما سنحت الفرصة.

تجربة رواندا غنية وثرية وبها العديد من الدروس، تحولت من دولة فقيرة مدمرة بعد أسوأ حرب إبادة في القرن العشرين إلى دولة حققت خطوات كبيرة في دفع عجلة النمو الاقتصادي والتنمية. وتحولت خلال 20 سنة إلى واحدة من أهم الاقتصادات الناهضة بالعالم بمعدل نمو 7.5% من عام 2015 إلى 2017.

آمنت رواندا بأن التعليم هو السلاح الذي ستواجه به التطرف والعنصرية فطورت منظومة التعليم. تعليم يغرس حب رواندا فقط دون التفاخر بالقبيلة، وجعلت التلفظ بأي كلمة عنصرية يعاقب عليها القانون.

مما قد نستغرب منه أن نعرف ترتيب رواندا في تقرير جودة التعليم للعالم لسنة 2014 الصادر عن اليونسكو والذي وضع رواندا من أفضل 3 دول في تجربة النهوض بالتعليم.
تخيلوا بلدا خرج من حرب مدمرة وهو الآن من أفضل الدول في التعليم رغم فقره، كيف حدث هذا، خاصة عندما نعرف ان 75% من المعلمين إما قُتلوا أو سُجنوا أو فروا خارج البلاد.

ماذا فعلت الحكومة الرواندية للتغلب على هذه الكارثة؟
أول حكومة رواندية بعد الحرب الأهلية وضعت برنامجاً لإعادة المواطنين الذين فروا من البلاد، وبدأت برنامج لإعادة تأهيلهم للعودة للحياة الطبيعية، والمعلمين كانت لهم الاولوية في التأهيل.

لتتجاوز رواندا ماحدث اهتمت بالتعليم وبالمعلم تحديدا، فأقيمت العديد من ورش العمل والدورات التدريبية التي تًنتج معلمين قادرين على تقديم تعليم، ولكن أي نوع من التعليم؟
تعليم يواكب العصر، تعليم يُلبي احتياجات سوق العمل، تعليم ينهض بالبلاد اقتصاديا.
كان منهج التاريخ سابقا مزيفا وعنصريا ليرسخ الولاء والانتماء للقبيلة ويعزز العداء والحقد، تم التخلص من مادة التاريخ ومنع تدريسها، وهناك من ينتقد الدولة لهذا السبب ويعتبر هذا خطأ، فعلى الدولة إعادة تدريس التاريخ لكن بعد تنقيته من التشويهات.
لم تكتف الدولة بتأهيل المعلمين فقط، بل فعلت أكثر من هذا!
لقد عقدت حكومة رواندا شراكة مع “Microsoft”، لمحو الأمية الرقمية في البلاد، وتبنت الحكومة لنظام “ICT 4E” وهي اختصار لـ”تكنولوجيا المعلومات والاتصال من أجل التعليم”، وهو نظام يستبدل وسائل التعليم والكتب التقليدية بمنصات إلكترونية عبر”اللابتوب” أو “آي باد” أو مشغل “Mp3” يُتابع من خلالها الدارسون دروسهم بكل سهولة ويسر.
قد يبرز سؤال منطقي، بلد فقير كيف سينفق على نفقات تعليم يعتمد على منصات الكترونية؟ والجواب بسيط، الحكومة أعفت الشركات التجارية الخاصة من الضرائب إذا ساهمت في دعم التعليم.

“نتذكر لنتعلم”، شعار مكتوب على ستة نصب تذكارية تذكّر الروانديين بالثمن الذي دفعوه لقاء القبلية والتعصب. أغلب تلك النصب، هي كنائس أو مدارس ولا تزال تحتوي على عظام وجماجم من قتلوا، معروضة للزوار. هكذا تبقى آثار المذابح لتذكرهم بقيمة التعايش المشترك. والثمن المخيف للاستجابة لمشاعر التعصب.
يوم 7 أبريل من كل عام توقد شعلة عند النصب التذكاري الرئيسي للمذبحة في العاصمة كيغالي ولمدة 100 يوم، تكريما للضحايا وجبرا لخواطر الأحياء منهم، وحتى يتذكر كل رواندي ماذا حدث وحجم الكارثة. ربما منعا لأي عملية لتشويه الماضي، أو أي محاولات لإخفاء الحقائق على الأجيال القادمة. في المتحف هناك تسجيلات فيديو لشهادات الناجين توثق ماحدث.

هل ننتظر مذابح إبادة حتى نتعلم الدرس، أم نستطيع تجاوز ذلك، ونعلم أن الوطن ملك الجميع، وأن اختلافنا هو تنوع وإثراء، وأمامنا مهمة شاقة للخروج بالبلد من مستنقع الكراهية ليتحول بأيدي أبنائه لوطن عصري يعيش الكل فيه سواء أمام قانون لا يستثني أحد.

https://nasejyemen.com/2019/03/29/%D8%A3%D8%AD%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%AC%D8%AD%D8%A7%D9%81-%D8%AA%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D9%87%D9%84-%D9%86%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D8%B3/ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصمت عار

فيلم Alpha

الكرد في اليمن، دراسة في تاريخهم السياسي والحضاري 1173 - 1454م لدلير فرحان إسمايل