قراءة للجزء الثالث من رواية: بحثا عن الزمن المفقود (جانب منازل غرمانت) - لمارسيل بروست:

 

"جانب منازل غرمانت"، هي الجزء الثالث من رواية مارسيل بروست "بحثا عن الزمن المفقود" المكونة من سبعة أجزاء. الرواية حافلة بعدد كبير من الشخصيات، وهي عكس الروايات التي تركز على عدد محدود من الشخصيات.
في هذا الجزء من الرواية يلخص الراوي تاريخ الأسر الحاكمة والارستقراطية الفرنسية في ذلك الزمن، وطبيعة العلاقات بينها. يسهب في شرح الأنساب وأصول الشخصيات، وأصل الأسماء، وتسمية القصور بتلك الأسماء، ولربما تختفي الأسرة من الوجود ويبقى القصر حاملا الاسم.
نعيش عبر صفحات طويلة – 668 صفحة - مع الراوي في صالونات المجتمعات الراقية، نستمع للأحاديث المنمقة وأنواع النكات والتلاعب بالألفاظ والمصطلحات بين أبناء الطبقة التي تهوى النميمة، وتناقل الأحاديث المفتعلة، والمتكلفة والمصطنعة؛ إلى جانب التسابق والتنافس والادعاءات أي أفراد الأسر أفضل عبر سرد البطولات وأيها أكثر عراقة.
نعرف كيف كانت ألقاب العائلات تحدد المكانة الاجتماعية للفرد. ويقارن الراوي صفات ومميزات الأسر الارستقراطية المختلفة. ويشعر القارئ أنه يعيش وصف لحقيقة الطبقة الارستقراطية الفرنسية، ويرصد التغيرات التي حدثت في المجتمع الفرنسي في تلك الفترة التاريخية، بكل ما فيه من ادعاء وثقافة وفنون متنوعة.
من المواقف المؤثرة في الرواية الفصل الذي تمرض فيه جدة الراوي، وتشبيه ما يقوم به الطبيب مع مرض الجدة بعمل الجنرال وعظمته وهو يتخذ قرار على الصعيد العسكري.
نشعر بعمق الألم والوجع الذي تعاني منه الجدة عندما يتذكر الراوي ما قالت له ذات مرة:
" لقد سبق أن قالت لي في "بلبيك"، ذات يوم تم فيه غصبا إنقاذ أرملة ألقت بنفسها في الماء (وربما دفعها إلى القول واحد من صنوف الحدس التي نقرؤها أحيانا في خفايا حياتنا العضوية، مع أنها شديدة الإبهام، ولكنما يبدو أن المستقبل ينعكس فيها) إنها لا تعرف وحشية مماثلة لانتزاع بائسة من الموت الذي أرادته وردها إلى شديد عذابها".
وتعج الرواية بالشخصيات الأسطورية مثل "ثيسيوس" أحد ملوك أثينا الاسطوريين، و"ايكاروس" ابن دايدالوس اللذان كانا محتجزين في متاهة جزيرة كريت عقابا لهما، واستعانا بأجنحة للهروب بعد تثبيت الأجنحة بالشمع، و"بروميثيوس" العملاق الذي حارب في صف الآلهة ضد العمالقة، وهو الذي شكل البشر وسرق النار من جبل الأولمب واعطاها للبشر.
وتبدأ الرواية بوصف تعلقه بالسيدة غيرمانت: "وفي كل مره ينفتح فيها الباب الرئيسي كانت حركته تتوالى في فؤادي اهتزازات تستمر فترة طويلة لتهدأ. وكيف تصنع من نزهتها الصباحية قصيدة كاملة من الأناقة وأرق الزينة وأطراف أزاهير السماء الصاحية".
تعج الرواية بأخبار الفن والأدب واللوحات الفنية والعروض المسرحية والألحان الموسيقية وتعطي للقارئ لوحة متكاملة عن ثقافة العصر الذي عاش فيه بروست. فنجد أسماء الكبار أمثال: الفنان رامبرانت، واتو، بوشيه،وبيرنار باليس، والممثل هيبوليت، وآريس، وإيسمين، والروائي ستاندال، وبلزاك، وفيكتور هيغو، وفولتير، ولا مارتين، وجوته،وتولستوي، والعالم الرياضي بوانكاريه، ونابليون، وفاغنر، وغوستاف لومير، وبيتهوفن وآخرين.
عبر صفحات الرواية تتدفق ذكريات الراوي من مخزون الذاكرة لتستدعي العديد من الشخصيات والذكريات الدقيقة لتشكل تاريخ فرنسا كلوحة فنية غنية بالألوان والسحر.
نُشر هذا الجزء من الرواية في العام 1921، ويعرج فيه الراوي للحديث أيضا عن الحروب والخدمة العسكرية، وقضية دريفوس الشهيرة، وأخبار الاكتشافات العلمية وظهور الهاتف والسيارة والاكتشافات العلمية في مجال تلقيح النباتات. وتعليق إحدى الشخصيات على المعلومات العلمية بشأن التلقيح في النباتات كما جاء في الصفحة 577: " ...قد لا تدعو الحاجة على أي الحال إلى المضي بعيدا جدا. ذلك إنه يجري فيما يبدو، في حديقتي الصغيرة وحدها، وفي وضح النار، أمور غير محتشمة أكثر مما يجري ليلا...".
واستطيع القول أن مارسيل بروست نجح في جعل القارئ يعيش الماضي كأنه واقع، بأسلوب بروست في الكتابة، ذلك الأسلوب القائم على الجمل الطويلة المعقدة والتفاصيل التي لا تنتهي، والنقاشات والحوارات الطويلة. وما نقرأ حاليا هو نتيجة لما فعله بروست وهو ينشر كتابه، ففي كل مره كان يراجع فيها بروست ما نشره، كان يرى النواقص فيحذف أجزاء ويضيف أخرى.
وكما قال آلان دو بوتون في كتابه " كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك": أن الرواية قد تكون نتاج جهود أكثر من بروست الأول الذي كان قد كتب المخطوطة، وبروست الثاني الذي أعاد قراءتها، وبروست الثالث الذي صحح بروفات الطباعة.
هل أنصح بقراءة الرواية؟ نعم، رغم طولها وشعور القارئ في كثير من الأحيان بالملل، لكنها تجربة تستحق أن يخوضها القارئ الذي يعشق القراءة ويستمتع بسحر الكتب.
اقتباسات من الرواية:
"الثروة لا تعني السعادة وأن العقل والقلب والموهبة هي المهمة وحدها"
" ليس الماضي



سريع الزوال، بل هو لا يبرح مكانه"
جميعنا متساوون أمام الموت على أية حال..."
"اختيار الإقامة في مدينة، يساوي امتلاكها روحيا".
(نُشرت بمجلة مدارات الحروف العدد السابع)
 
قراءة للجزء الأول من الرواية - جانب منازل سوان:
 
 
قراءة للجزء الثاني من الرواية - جانب منازل سوان:
 
 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الصمت عار

فيلم Alpha

الكرد في اليمن، دراسة في تاريخهم السياسي والحضاري 1173 - 1454م لدلير فرحان إسمايل